إشكالية تجديد الخطاب الجمالي في الفيلم العربي

متابعات الأمة برس
2021-01-25

خلال تاريخ السينما العربية الذي بدأ مرحلة الإنتاج في العقد الثالث من القرن العشرين، كانت النخب المثقفة غالبا ما تقف في خندق القوى التي تعاملت مع الفن السينمائي، باعتباره أبسط من أن يحمل خطابا إبداعيا، بمحمولات جمالية ومعرفية، إذا ما قورن بالشعر والرواية والقصة، ومازال هذا الفهم إلى حد ما يشكل ظاهرة قائمة في الثقافة العربية، ومن مظاهر حضور هذا الفهم عدم إدراج الفن السينمائي في سلم أولويات البحوث والدراسات، التي عادة ما ينشغل بها المثقفون والمبدعون خلال مسيرتهم الفكرية والإبداعية، وظل هذا النشاط البحثي محصورا ضمن حدود الدراسات الأكاديمية في معاهد وكليات السينما.

السينما والفلسفة

لو عدنا قليلا إلى الوراء، في محاولة منّا للبحث عن العوامل التي أحدثت تحولا كبيراً في طبيعة الفن السينمائي وإنضاج خطابه الجمالي، لوجدنا أن من وقف وراء تلك التحولات أشخاص جاءوا من حقول بعيدة عن الفن السينمائي، في مقدمتها الفلسفة، وهذا ما نجده في إيطاليا وفرنسا على وجه خاص، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عندما دخلت إلى حقل الفن السينمائي مجموعة من الأسماء جاءت من ميدان الفلسفة والنقد، مثل جان لوك غودار وفرنسوا تروفو وكلود ليلوش، حيث كانوا يكتبون قراءات نقدية وتنظيرية في مجلة «دفاتر السينما» قبل أن يعملوا وراء الكاميرا بصفة مخرجين، وكان سعيهم من وراء ذلك يذهب باتجاه تفتيت الرؤية التقليدية التي قام عليها هذا الفن، والتي كانت تختصره بسرد الحكايات على الشاشة، فتمكنوا من إدخال ما كانت قد توصلت إليه البحوث والدراسات في إطار اللغة والسيميائية، وعلم الجمال من نتائج، وغاية ما كانوا يطمحون إليه يتمحور في الارتقاء باللغة السينمائية، وما يمكن أن تصل إليه محمولات الخطاب السينمائي من آفاق دلالية، بعيداً عن بساطة الموضوعات والمعالجات الأسلوبية المتراكمة منذ بدايات الفن السينمائي.

ومن غير الممكن استبعاد ما حدث من تحول كبير في تاريخ الفن السينمائي نتيجة جهودهم على مستوى الفهم والأسلوب والمعالجة والموضوعات، فظهرت السينما الواقعية في إيطاليا والسينما الجديدة في فرنسا، وكان ذلك إيذاناً ببدء مرحلة جديدة ومهمة من تاريخ الفن السينمائي مازالت آثارها ونتائجها واضحة وسارية حتى الآن، ولولاها لما شهدنا هذا النضج والنمو في البنية الجمالية للخطاب السينمائي بعيداً عن نمطية الإنتاج في السينما الأمريكية، والذي عادة ما تتحكم في ضوابطه القيمية من حيث الشكل والمضمون منظومة السوق الاقتصادية.

السينما والشعر

لم يكن المخرج الإيطالي بازوليني (1922 – 1975 )عندما جاء إلى الفن السينمائي بعد الحرب العالمية الأولى سوى شاعر متمرد على سكونية اللغة ومحدودية مدلولالتها، فنقل ثورته الشعرية إلى الفن السينمائي، ليبدأ معه رحلة التغيير، وينطبق الحال مع بقية الأسماء مثل أنطونيوني وكوداروجان كوكتو ولويس بونويل وآخرين.

معظم الذين جاءوا بالوعي الجديد في فهم الفن السينمائي كانوا كتاباً وشعراء ونقادا، أرادوا لأفلامهم أن يكون تأثيرها ودورها مثل كتاباتهم، التي كانت تتحرك في منطقة خاصة من الاشتغال الإبداعي، أن تنطلق من فكرة التجديد في بنية ولغة الخطاب الثقافي، بكل تجلياته، ولولا هؤلاء لما حدثت هذه النقلة النوعية المفارقة في تاريخ وجمالية الخطاب السينمائي.

 موضوع يهمك : مع احمد الاغبري في اجنحة الكلام وفضاء الاسئلة

في منطقتنا العربية لو نظرنا إلى العاملين في حقل الفن السينمائي، خاصة في المواقع الأساسية منها: الكتابة والإخراج، لوجدنا عددا محدودا جدا، ربما لا يعدون حتى على أصابع اليد الواحدة، جاءوا من حقول الأدب أو الفكر، ليعملوا في الفن السينمائي، باعتباره خطاباً إبداعياً مثل الشعر والرواية، وهنا ينبغي أن نشير إلى تلك التجارب السينمائية التي ابتدأت مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكانت تحمل في ثناياها ملامح منطوق جديد لم يكن منسجماً مع المخيلة التقليدية التي صاغت معظم الإرث السينمائي العربي، منها على سبيل المثال تجارب عدد من المخرجين السوريين الذين كانوا قد مارسوا أنشطة كتابية في النقد والأدب، إضافة إلى العمل في السينما وهو ما يمثل القاعدة المفقودة التي نبحث عنها، منهم على سبيل المثال محمد ملص وقيس الزبيدي (العراقي الأصل) كذلك في مصر جماعة السينما الجديدة، الذين انبثقت في حركتهم دينامية جديدة، عندما أصدروا عام 1968 أول بيان سينمائي نظري قصدوا من خلاله سن قيم جديدة لسينما يطمحون إلى تحقيقها وجاء في بيانهم أن: «الذي نريده سينما مصرية، أي سينما تتعمق في حركة المجتمع المصري، وتحلل علاقاته الجديدة، وتكشف عن معنى حياة الفرد وسط هذه العلاقات، ولكي تكون لدينا سينما معاصرة لابد أن نمتص خبرات السينما الجديدة على مستوى العالم كله، وعندما تكون السينما واقعية محلية الموضوع عالمية التكنيك واضحة المضمون، بفضل تعمق السينمائيين في واقعنا فسوف تستعيد جمهورها كما تحقق انتشاراً عالمياً».. في السياق نفسه شهدت بلاد المغرب العربي في تلك الفترة ظهور عدد من الأسماء كانت تسعى إلى تحطيم الجمل السينمائية التقليدية التي تجذرت في الذائقة الجمعية العربية، بفعل محاكاتها للنموذج الأمريكي.

تعثر التجارب

ما ينبغي قوله في هذه المسألة أيضا، أن تلك التجارب لم تصل مشاريعها الفنية إلى المرحلة التي توقف زحف المنطوق الفني القديم واستمرار هيمنته بكل استعاراته المباشرة والسطحية، وتعثرت مسيرتها أمام معرقلات كثيرة واجهتها، بالتالي عجزت عن ترسيخ قواعدها ومفاهيمها أمام السينما التقليدية، فانزوت في ركن قصي من المشهد السينمائي، واكتفت بالإعلان عن وجودها بين حين وآخر، في المهرجانات السينمائية، وفي تقديرنا نرى أن البيئة الاجتماعية العربية بمنظومتها التقليدية في التفكير والإنتاج لم تكن ثقافتها متهيئة لاستيعابها والقبول بها، إضافة إلى غياب العلاقة التفاعلية بينها وبين النخب المثقفة، التي لم تظهر حماسة في الانحياز إلى التجارب التي تتوخى صنع خطاب سينمائي جديد، وهذا يعني إلى حد كبير أن السينما في مشتركات صناع الثقافة العربية، ما زالت تقف مسافة بعيدة عن ما يمكن أن ينجزه الشعر أو الرواية أوالقصة، في إطار الدلالة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي