المرشح لمنصب مدير المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز يدعو لتعديل قواعد الاشتباك السياسي في الشرق الأوسط

2021-01-23

إبراهيم نوار

 تواجه الإدارة الجديدة للولايات المتحدة بقيادة الرئيس جو بايدن عبء إنجاز مهمة ثقيلة للخروج الولايات من الهوة السحيقة التي سقطت فيها خلال السنوات الأربع الأخيرة داخليا وخارجيا. ومع أن عددا كبيرا من وجوه الإدارة الجديدة سبق له العمل في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما (2008 – 2016) فإن المرشح لمنصب مدير المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز هو دبلوماسي مخضرم عمل مع وزراء الخارجية في الإدارات الجمهورية والديمقراطية منذ تسعينيات القرن الماضي. ويمثل بيرنز نموذجا للكفاءة في العمل، والقدرة على إقامة وتطوير علاقات مثمرة مع الأصدقاء والخصوم على السواء، وممارسة الدبلوماسية العملية من خلال شبكة علاقات ذات طابع عنكبوتي بعيدا عن الاستقطابات.

وقد دعا بيرنز في السنوات الأخيرة إلى ضرورة تجديد الدبلوماسية الأمريكية، والاستفادة من أسلوب دبلوماسية الأبواب الخلفية، التي تتجنب الإحباطات الناتجة عن المزايدات في المؤتمرات وأمام الكاميرات. كما يتمتع بيرنز بكثير من المهارات التي تؤهله للنجاح في إقامة وتطوير العلاقات في منطقتي الشرق الأوسط وأوراسيا، منها إجادته للغتين العربية والروسية. ومنذ خروجه من وزارة الخارجية، انخرط بيرنز في مجالات التعامل مع اللاعبين غير الحكوميين على مسرح العلاقات الدولية، من خلال رئاسته لمؤسسة “الوقف الوطني من أجل السلام” التي سينتقل منها إلى منصبه الجديد.

 ويتمتع بيرنز بمعرفته العميقة وخبرته الواسعة بالعلاقات الأمريكية مع روسيا، وخفايا الصراع العربي الإسرائيلي، وما زال يحتفظ بصداقات قوية مع عدد من صناع القرار في المنطقة ومساعديهم، وله اهتمام خاص مبكر بمصر، حيث كانت رسالته للدكتوراه من جامعة أكسفورد في موضوع المساعدات الاقتصادية ودورها في العلاقات الأمريكية – المصرية. وربما جاء اختيار بايدن له في هذا المنصب نظرا لأن العلاقات الأمريكية مع الشرق الأوسط وروسيا ستحتاج إلى الكثير من الدبلوماسية الخفية التي تديرها المخابرات المركزية أفضل من غيرها.

ويعتقد بيرنز أن الشرق الأوسط يجب أن يكون في صدارة أولويات الولايات المتحدة، نظرا للموقع الإستراتيجي للمنطقة ودورها التاريخي في حسم صراعات القوى في العالم. لكن كثيرين من قيادات الإدارة الجديدة بمن فيهم الرئيس بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، يعطون أولوية قصوى في السياسة الخارجية للعلاقات مع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا قبل الشرق الأوسط. وبينما ستلعب وزارة الخارجية بقيادة بلينكن الدور الأكبر في ترميم العلاقات عبر الأطلنطي، فإن دور وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط تحت قيادة بيرنز لن يكون مجرد دور وكالة استخبارات على الطريقة التقليدية، ولكنه سيصبح أقرب ما يكون إلى دور تصنيع السياسة عبر الأبواب والنوافذ الخلفية، وتمهيد الأرض لاستقبال واستيعاب تغييرات سياسية ضرورية لإقامة توازن جديد في المنطقة يحافظ على دور قيادي للولايات المتحدة.

الأولويات في الخليج

 من المتوقع أن سياسة “أمريكا أولا” ستسقط تدريجيا وليس بين عشية وضحاها، لتجنب حدوث هزات في العلاقات مع دول المنطقة، لكن إشارات سقوط تلك السياسة الترامبية ستكون واضحة بقوة لدى بعض حكام المنطقة الذين تمتعوا بالأمان في مواقعهم مع إطراء ترامب على سياساتهم وإبدائه الإعجاب بهم.

وخلال فترة رئاسة بايدن ستكون العلاقات مع مصر وتركيا والسعودية وإيران وإسرائيل محطات اختبار رئيسية لقدرة الإدارة الجديدة على الإبحار في صراعات الشرق الأوسط بسياسة مختلفة عما كانت في حكم ترامب، بدون التسبب في المزيد من الاضطرابات. ويقول ويليام بيرنز إن قواعد الاشتباك السياسي مع هذه الدول ومع المنطقة ككل يجب أن تتغير وأن تنتقل من موقف التأييد المطلق، كما هو الحال مع السعودية، أو موقف العداء المطلق، كما هو الحال مع إيران. وبدلا من ذلك يتبنى استخدام منهج يتحرك بخطوات تقترب من مبادئ السلام والديمقراطية والتعاون المتبادل في الأجل الطويل، مع المحافظة على “شعرة معاوية” في الأجل القصير.

ومن الأمثلة التي ذكرها بيرنز في حوار مع قيادات برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في العام الماضي، أن الولايات المتحدة في علاقاتها مع السعودية يجب أن تضغط من أجل عدم استخدام الأسلحة الأمريكية في الحرب على اليمن ووقف صادرات أسلحة بعينها، وليس كل صفقات الأسلحة.
بمعنى آخر فإن المخابرات المركزية الأمريكية قد توصي باتخاذ قرارات انتقائية تستهدف تحقيق غايات بعينها، بدون الإضرار بالمصالح الاستراتيجية. وحدد بيرنز في مقال بمجلة “أتلانتيك” أواخر عام 2019 معايير جديدة للعلاقات مع دول الخليج العربية قائلا إن هذه العلاقات يجب أن تكون أكثر من مجرد طريق واحد ذي اتجاهين “يجب أن نساندهم ضد التهديدات الأمنية التي يتعرضون لها من إيران أو أي طرف آخر، لكننا في الوقت نفسه يجب أن نحثهم على إدخال إصلاحات كافية لتحديث النظام الاقتصادي والسياسي”. وقال إن حكام هذه الدول “يجب أن يتوقفوا عن التصرف كما لو كان لديهم صك على بياض من الولايات المتحدة”. وحدد ثلاث أولويات يجب العمل على تحقيقها مع دول الخليج هي إنهاء الحرب في اليمن، والتوقف عن التدخل السياسي في شؤون بلدان أخرى مثل ليبيا والسودان، إضافة إلى ضرورة تحسين وعقلنة إدارة المنافسة بين دول الخليج العربية وبعضها البعض.

وعلى صعيد العلاقات مع إيران يتمتع بيرنز بخبرة كبيرة تراكمت لديه من خلال رئاسته للوفد الأمريكي الذي كان يتولى إدارة مفاوضات سرية مع طهران عام 2013 قبل التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015. وتكشف قراءة كتاب بيرنز عن دبلوماسية الأبواب الخلفية أنه ينظر للعلاقات الأمريكية – الإيرانية من عدة نوافذ، الأولى هي نافذة الأمن الخليجي، والثانية الأمن النووي العالمي، والثالثة السباق الإستراتيجي بين القوى الرئيسية، والرابعة هي مصالح الولايات المتحدة في المنطقة بشكل عام. ويميل إلى عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي مع إيران، حيث صرح أكثر من مرة بأن الولايات المتحدة بانسحابها فإنها “تعزل نفسها بدلا من أن تعزل إيران” . لكن هذا لا يعني أن هذه العودة ستتحقق بسهولة وبسرعة، وإنما ستخضع لاعتبارات كثيرة منها التفاهم مع شركاء الولايات المتحدة، ومع الدول الحليفة في المنطقة ومنها إسرائيل والسعودية والإمارات التي تتخذ موقفا متشددا من إيران.

الدولة الفلسطينية

يتبنى بيرنز رؤية للعمل على تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على أساس حل الدولتين، وإن كانت تلك الرؤية عامة وغامضة فيما يتعلق بشروط إقامة الدولة الفلسطينية. وقد انتقد “صفقة القرن” وقال إنها تنحاز للجانب الإسرائيلي على حساب الحقوق الفلسطينية، وتضفي شرعية على كل المستوطنات والبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، وكذلك على مشاريع التوسع الإسرائيلي في القدس الشرقية، وهو ما يؤدي في رأيه إلى القضاء تماما على حل الدولتين. ومع ذلك فإنه يميل إلى ضرورة الاستمرار في رعاية اتفاقيات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، مع العمل على توسيع نطاقها وضم أطراف جديدة إليها وتعميقها في كل المجالات. ومن المتوقع أن يعمل ويليام بيرنز في حال تأكيد الكونغرس لترشيحه مع قيادات السياسة الخارجية والدفاع والأمن القومي من أجل فتح طريق لتفاهم جديد بشأن طبيعة الدولة الفلسطينية المقترحة وضرورة تحديد مناطق الاستيطان، بما يسمح للدولة بممارسة سلطة حقيقية بموارد حقيقية لتوفير حياة أفضل للفلسطينيين، واستئناف تمويل الولايات المتحدة لوكالة غوث اللاجئين، وتقديم مساعدات مالية للسلطة الوطنية الفلسطينية.

حقوق الإنسان

بعد أن قامت سياسة أمريكا الخارجية في الشرق الأوسط على مبدأ “أمريكا أولا” فإن الإدارة الجديدة ستحاول تقديم نموذج مختلف يأخذ في الاعتبار القيم الليبرالية والديمقراطية. إذا سارت الأمور على هذا النحو فإن المستبدين الصغار في منطقة الشرق الأوسط سيفقدون عهد السلامة والأمان الذي كان ترامب قد قطعه لهم، بعد أن فشل هو في حماية نفسه من السقوط. وفيما يتعلق بمصر فإن الإدارة الجديدة ستراقب عن قرب طبيعة علاقاتها مع كل من روسيا والصين، ومدى تأثير ذلك على سباق النفوذ الإستراتيجي في المنطقة الممتدة بين شرق البحر المتوسط، والخليج العربي، والقرن الأفريقي. ومن المرجح أن تستخدم الإدارة أسلحة ضغط مختلفة منها إثارة موضوعات تتعلق بالحريات العامة وحقوق الإنسان والمساعدات الاقتصادية والعسكرية، لتحقيق غايات تخدم المصالح والقيم الأمريكية في المنطقة. ولا يجب أن نتجاهل قوة الجمهوريين والموالين لإسرائيل في مجلس الشيوخ، وهو ما يعني أن موقف إسرائيل من مصر سيكون أحد العوامل المحددة لدبلوماسية الولايات المتحدة معها.

ترتيب البيت من الداخل

في ممارسته لمهام وظيفته الجديدة سيحتاج بيرنز إلى توفير عدد من الشروط الجوهرية التي تقع خارج نطاق مسؤولياته وتتضمن:

-إستراتيجية جديدة للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية تقطع الصلة مع الإستراتبجية التي صاغ أهدافها ترامب التي تقوم على مبدأ “أمريكا أولا” وكانت تمثل خطوة خارج السياق بالنسبة للسياسات الخارجية والدفاعية والأمن القومي للولايات المتحدة.

-التنسيق إلى أقرب درجة ممكنة مع أجهزة صنع السياسة الخارجية والدفاع والأمن القومي، ومقاومة إغراء التورط بشكل منفصل في عمليات صنع السياسة الخارجية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تداخل في الوظائف بينه وبين أنتوني بلينكن وزير الخارجية المرشح. وفي هذا السياق فإن من المرجح أن تعتمد العلاقات الأمريكية عبر الأطلنطي على الدبلوماسية المباشرة الذكية بقيادة بلينكن، بينما تعتمد في منطقتي الشرق الأوسط وأوراسيا على الدبلوماسية الخفية، أو دبلوماسية الأبواب الخلفية بقيادة بيرنز.

-الوعي بالقيود التي تحاصر القوة الأمريكية من الخارج، وعوامل الانقسام والضعف في الداخل، التي تقلل من القدرة على ممارسة النفوذ الخارجي. بمعنى آخر فإن الإدارة الجديدة بأكملها ستمارس عملها في مناخ مختلف داخليا وخارجيا عما كان عليه الحال أثناء حكم باراك أوباما قبل أربع سنوات من حكم ترامب.

هذه الاعتبارات تعني أن قدرة الولايات المتحدة على ممارسة نفوذ أكبر على المسرح الدولي ستكون محكومة بمدى قدرة الإدارة على تحقيق إصلاحات داخلية لإزالة الأضرار التي تسبب فيها حكم ترامب. ومن الصعب جدا أن تتمكن الإدارة الديمقراطية من تحقيق تغيير حقيقي على الصعيدين الداخلي والخارجي في فترة رئاسية واحدة، لأن ذلك يتطلب أولا إعادة بناء الثقة بين الناخبين ومؤسسات الدولة، وإعادة الثقة إلى دور الولايات المتحدة في النظام الليبرالي الدولي المتعدد الأطراف. وتتطلب هذه الأولويات تحقيق نجاحات سريعة في مواجهة خمسة تحديات رئيسية عاجلة، هي السيطرة على وباء كوفيد-19 وتحفيز النمو الاقتصادي، وتضييق فجوة التفاوت الاجتماعي التي اتسعت بشدة خلال العام الماضي لتقليل حدة الانقسام الاجتماعي، وتبني سياسة بيئية جديدة، وأخيرا إدراك ضرورة تعزيز النظام الليبرالي الدولي المتعدد الأطراف، وضرورة إصلاح العلاقات مع الحلفاء خصوصا الاتحاد الأوروبي، وعودة الولايات المتحدة إلى منظمة الصحة العالمية ومعاهدة الأمم المتحدة للمناخ ومنظمة اليونسكو والقبول بدور أكبر للصين في النظام العالمي.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي