ندوة فكرية في مراكش: الشعر وعاء اللغة وناشد التغيير

الامة برس-متابعات:
2020-12-23

وحده الشاعر قادر على استيعاب أقانيم الفلسفة ومختلف مجالات التفكير الإنساني. 

مراكش: ضمن سلسلة ندواتها قدّمت درا الشعر بمراكش ندوة فكرية تحت عنوان “وظيفة الشاعر في عالم اليوم”، شهدت مشاركة النقاد: فتح الله مصباح، مصطفى دادا وأسماء راشيدي، في حوار عميق لاستجلاء سمات وتجليات وظيفة الشاعر في عالم يمرّ بالعديد من التحوّلات.

وواصلت الدار، من خلال هذه الندوة، استقصاء الخطاب الشعري استكمالا لسلسلة الندوات التي برمجتها خلال مواسمها السابقة: الشعر والترجمة، الشعر وأسئلة الهويّة، مسرحة القصيدة، الدرس الافتتاحي “الشعر والمشترك الإنساني”، “الشعر وأسئلة التلقي”، “الشعر وأسئلة التحولات”، “الشعر وأسئلة التوثيق والرقمنة” و“النقد الشعري في المغرب”.

وسعى المشاركون في الندوة إلى مناقشة ثلاثة محاور مركزية انطلاقا من وظيفة الشاعر (إشكالات التحديد)، مرورا بوظيفة الشاعر عبر التاريخ الإنساني، وأخيرا وظيفة الشاعر ضمن ديدن أسئلة التحوّلات المجتمعية اليوم، في سعي حثيث إلى تحديد سمات وظيفة الشاعر من خلال رصد مختلف التحوّلات التي مسّت وضعه الاعتباري داخل منظومة الإبداع الكوني.

  الندوة محطة جديدة ضمن استراتيجية دار الشعر بمراكش للمساءلة والتمحيص النقدي، حول الشاعر ومنجزه الشعري

اعتبر الناقد فتح الله مصباح، أن وظيفة الشاعر تثير إشكالات عدة، وهذا راجع لارتباط وظيفة الماهية بماهية مفهوم الشعر أساسا. كما أن سؤال “الوظيفة” يرتبط بإشكال آخر، والمتمثل في أننا أمام وظائف بالجمع. ولعل حضور تجارب شعرية متعددة وأصوات شعرية على اختلاف مرجعياتها وأنماط الكتابة، يصعّب من تحديد وظيفة واحدة للشاعر لأننا في الأصل لسنا أمام مرجعية واحدة.

واتجهت الباحثة أسماء راشيدي إلى ربط الشاعر ووظيفته، بخدمة معينة يقدّمها للمجتمع. لكن هذه الخدمة يصعب تحديدها لأنها في الأساس تتعدّد وتختلف باختلاف المرجعيات والمواقف والثقافات. لكن، إجمالا، يمكن الحديث عن وظائف للشاعر، اجتماعية، نفسية، وإنسانية.

أما الناقد دادا، فأعاد التأكيد على مركزية الشعر في جغرافية الإبداع الإنساني بصفته أقدس التعابير الإبداعية وأسمى الفنون. أما سؤال الوظيفة فيربطه بالبعد الأنطولوجي، والذي لا يزال يحفر في مشهدنا الثقافي إلى اليوم، وهو أيضا سؤال يرتبط بماهية الشعر نفسه، جدوى الشعر في المجتمع، لكن وظيفة الشعر والشاعر ارتبطت بالعديد من المتغيرات في المفهوم وفي تحديد التصوّرات للمقاربة.

واستعاد مفتاح وظيفة الشاعر تاريخيا بالعودة إلى الفكر اليوناني، واجتهادات أفلاطون وأرسطو، ووظيفتي المحاكاة والمتعة، وطرد الشعراء من المدينة الفاضلة. لينتقل إلى حضور الشاعر في العصر الجاهلي، حيث كان الشاعر بمنزلة “النبوة” في القبيلة، وفي العصر الإسلامي والأموي والعباسي، حيث وجد الشاعر نفسه في خضم الصراع السياسي والكلامي ممّا جعله ينتصر لموقف على آخر.

فيما اتجهت راشيدي إلى التأكيد أثناء الجرد التاريخي لوظيفة الشاعر على صعوبة تحديد مفهوم مفرد بحكم تغيّر وجهات النظر واختلاف الحقب التاريخية والمرجعيات. وهكذا انتقلت وظيفة الشاعر من بلا وظيفة عند أفلاطون إلى ربطه بالطبيعة الإنسانية كما حدّد أرسطو، إلى وظيفة مجتمعية عند العرب، إذ أمسى المتحدث بلسانها في السلم والحرب وزعيمها، إلى وظيفة دينية مع مجيء الإسلام، انتقالا إلى وظيفة سياسية في العصر الأموي، ووصولا إلى تبنيه لقيم المواطنة والدفاع عن الهوية في العصر الحديث، وخدمة التحرّر العربي وبروز مفهوم الالتزام.ولاحظ الأكاديمي المغربي أن بعض الوظائف القديمة لا تزال مستمرة إلى اليوم، غير أنها وظائف خاضعة للتحوّلات. وقد توقف عند آراء ابن طباطبا، الشاعر والناقد، ليركّز على ضرورة النظر إلى تاريخية النصوص الشعرية، بدل الحديث الدائم عن تاريخ الأدب. ومع عصر النهضة، ظهرت اتجاهات بعث النص القديم بموازاة التجديد في الرؤى والانفتاح على الخطاب الصوفي وحضور البديعيات وظهور الحداثة الشعرية.

واتجه دادا إلى اعتبار الشعر حاجة إنسانية عند كل الحضارات الإنسانية، وهو ما أفرز جملة من الأنساق الثقافية أمست المعيار والسند لتقييم الشعر وجدواه. وقال “وظيفة الشاعر سلطة اجتماعية، لذلك كانت قصيدة عمرو بن كلثوم، نشيدا وطنيا لتغلب، وقصائد عنترة صرخة ضد العبودية، وصولا إلى التعبير عن الذات/ الرسالة الحقيقية للشاعر، في سعيه للتحرّر”.

الكتابة الشعرية فعل “ضد”، ينشد المشترك الإنساني (لوحة للفنان ساسان نصرانية)

أثار النقاد مصباح وراشيدي ودادا في المحور الثالث، صعوبة تحديد وظيفة إجرائية بسمات محددة اليوم، بحكم أننا نعيش تصوّرات مختلفة، ونسير في خطوط متوازية وفي ظل تقاطعات متعددة، كما أن الشعر الجديد شعر رؤيوي، وأمست القصيدة الحديثة تتجاوز النمط وهي أيضا شكل من أشكال الوجود. والراهن اليوم محكوم باللاثبات، وأيضا حالات التردي القيمي حيث تم الاستغناء عن إنسانية الإنسان.

وهكذا يعاد السؤال القدري: هل يمكن للشاعر أن يغيّر العالم؟ ويرى المشاركون أن الشاعر يمكنه التغيير بحكم مجموعة من الوظائف الرمزية، أبرزها تبنيه لمجموعة من القيم الإنسانية. وتنضاف وظيفته النفسية والمجتمعية ومسؤوليته اتجاه اللغة العربية وإعادة إحيائها في عالم يمحو اللغة والهوية.

وقدّر للشاعر أن يظل منذورا للقضايا الكبرى ولوظيفة ورهان إبداعي، ينطلق من فلسفة عميقة للوجود وللمجهول. قدر الشاعر اجتراح شعريات جديدة وتبلور لإبدالات متجددة. فأي خراب اليوم في أي نقطة في العالم، أمسى خرابنا جميعا، لذلك يطالب نقاد ندوة دار الشعر بمراكش بأن نحلم كما يحلم الشعراء بعالم مختلف ينتصر للإنسان.

هل كان جان كوكتو محقا حين قال “الشعر لا غنى عنه، ليتني أعرف السبب”، لعلّ جزءا من هذا الالتباس هو ما يفسّر الاختلاف الذي ظل يشغل النقاد والشعراء إلى اليوم، في محاولة القبض على تعريف أنسب لجنس الشعر. ومن هنا ظلت وظيفة الشاعر محكومة بمرجعيات قدرة الشعر، كجنس إبداعي، على تحديد وظيفته الفعلية.

وهكذا تعدّدت الرؤى واجتهادات زوايا النظر، حيث تحوّل معها الشعر إلى وثيقة تاريخية واجتماعية، ووعاء اللغة ونشدان التغيير وجماهيرية الشعر والشاعر وأسئلة الحداثة والتحديث، بل أمست بحيرة الشعر قادرة على استيعاب أقانيم الفلسفة ومختلف مجالات التفكير المعرفي الإنساني.

فإلى أي حد يستطيع الشاعر أن يتخلص من وظيفته الأولى والقدرية كتابة الشعر، ليرسخ أفقا مغايرا، وعبورا نحو أسئلة الكائن والكينونة والبعد الأنطولوجي وأسئلة المجتمع وقضايا إنسانية ومعرفية؟ وهل من ضرورة للشعر وللشاعر، اليوم، في ظل سيادة الخراب الشامل، والميول المتزايد للفردانية والانعزالية المفرطة، وهو ما يدفع الشاعر إلى عوالمه اللغوية والتخييلية؟ أليست هناك حاجة قصوى اليوم، لتجديد وظيفة الشاعر وتغيير زاوية النظر، ما دام له القدرة على ترسيخ فعل الكتابة الشعرية، كفعل “الضد”، تنشد “المشترك الإنساني”، وتنتصر لإنسانية الإنسان.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي