المسلمون في أوروبا: من وجود عابر إلى آخر مستقرّ

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-04-18
أحد الوجوه العلمية لمسلمي أوروبا يقول ان على مسلمي أوروبا أن يبرَعوا في مجال القيمِ ويُبْرزوها نظرية وتطبيقاً.

باريس – حوار الدكتور محمد الغمقي

العربي البِشري، أحد الوجوه العلمية الإسلامية لمسلمي أوروبا، وعادة ما يتم إرفاق اسمه بوصف الشيخ. هو من أصل جزائري، ويتابع عمله أستاذاً للفقه وأصوله منذ أربع عشرة سنة، بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية (كلية الشريعة) بمنطقة شاتو شينو بوسط فرنسا، كما أنه مسؤول الشّؤون العلمية بالمعهد، وفي الوقت نفسه يشغل عضوية المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.

يقوم الشيخ العربي البشري في هذا الحوار، بتقييم تطوّر الحضور الإسلامي في أوروبا والغرب عامة. ويؤكد في حديثه العميق، ضرورة القيام بدارسات عميقة لفهم هذا التطوّر، وإعداد الظروف المناسبة للأجيال المسلمة القادمة، الناشئة من رحم المجتمعات الغربية.

ـ ما هو تَقييمُك لتطوّر الحضور الإسلامي في أوروبّا من الكمّ إلى الكيف عُموماً؟

* في الحقيقة؛ قبل الكلام عن التطوّر يجب أن نتحدّث عن مظاهر التطوّر في الكمّ وحتّى في الكيف، باعتبار أنَّ الجيل الثّاني ليس كالجيل الأوّل والجيل الثّالث سوفَ لن يكون كالجيل الثّاني. وهكذا ستتطوّر الأَجيال باعتبار أنّ الجيل الأوّل كان محدوداً من جهة الثّقافة والمعرفة وحتّى من جهة الثّقافة الدّينية والالتزام بالدّين في حدّ ذاته.

وانتشار الدّعوة الإسلامية في هذه البلاد الأوروبية كان له أثر كبير على الجيل الثّاني، حيث تبصّر بوجوده في واقع غير إسلامي وتحوّل من وجود عابر مثلما كان آباؤه إلى وجود مستقرّ، وهذا في اعتقاديُ هو أهمّ نقطة في قضية التطوّر، أو بالأحرى أهم تطوّر عرض للجيل الثاني. طبعاً الجيل الثّاني لا بدّ أن يحمل معه بعض الرّواسب التي يخلّفها الجيل الأوّل. فالعامل بسيط الثّقافة والمعرفة وبسيط الالتزام بالدّين سوف لن يكون له تأثير إيجابي كبير على أبنائه. ولكن بالرغم من ذلك استطاع كثير من أبناء الجيل الثّاني، بقدراتهم وجهودهم الدّراسية، التعرّف على دينهم والتقدّم أشواطاً لا بأسَ بها، بحيث تميّزَ هذا الجيل تميّزاً كاملاً عن الجيل الأوّل. وأعتقد بأنّ هذا الجيل الثّاني سيكون له دور أكبر وأعمق على الجيل الذي سيُنْجبه أي الجيل الثّالث، وهذا معنى قولي: سوف لن يكون الجيل الثّالث كالثّاني.

ـ حسبَ رأيك؛ هل أنّ التطوّر سيكون نحو الاتّجاه الإيجابي؟

* بدون شكّ التطوّر نحو الجانب الإيجابي.

ـ ما هي مؤشّرات ودلائل هذا التطوّر حسب رأيك؟


* دلائل هذا التطوّر هي قيام كثير من المؤسّساتُ الدّينية ومؤسّسات الثّقافة الإسلامية ومؤسّسات المحافظة على الهوية الإسلامية، وحتّى المؤسسات التّجارية والقطاعية مثل مؤسّسات رجال الأعمال المسلمين. هناك وعي سياسي ووعي اجتماعي كذلك. في هذه المجالات نقف على وعيٍ ملموس، وسببه كما قلتُ هو تحوّل الوجود من وجود عابر إلى وجود مستقرّ.

أنت تَعرف أنّ الجيل الأوّل كان يقيم في شُقَق هنا في أوروبا ويبني بيوتاً في البلاد الأصلية. الآن باعَ هؤلاء بيوتهم في بُلدانهم ورجعوا إلى أهليهم، وبقي الجيل الثّاني هنا. هذا تحوّل كبير في العقلية، ذلك أنّ فكرة العودة ليست عقلية مستقرّة. أمّا إذا قال الإنسان: هذا بلدي واعتبر نفسه من أهل هذه البلاد فهذا معناه أنه دخل مرحلة الاستقرار.

ـ تقصد الاستقرار بمعنى التوطين والمواطَنة؟

* طبعاً أتكلم عن الاستقرار والمواطنة. هذا الإنسان أصبح مواطنا أصْلياً يؤدّي الواجبات التي عليه، ويعرف حقوقه فيطالب بها وهذا يحقّق تطوّراً كبيراً من ناحية الكيف.

ـ وجود المسلمين في أوروبا والغرب عامة كان هجرة فأصبح استقراراً، ما هي نتائج هذا الاستقرار؟

* هذا موضوع مهم جدّاً، ولقد كتبتُ في أحد البحوث عن هذا الموضوع. مع الأسف، لا أدري هل ينبغي أن يُتأسّف له أو ربّما هو نقطة ايجابية، يحتاج الأمر إلى دراسة. هذا الانقلاب العَفوِي والتّلقائي طرأ بسرعة ولم يمكّن الباحثين، وبالخصوص المسلمين منهم، أن يدرسوا هذه الظّاهرة بحيث يجهزون لها ما يمكن من الأسس التي يقوم عليها هذا الوجود. وأعتقد أنّ هذا التحوّل سيسبِّب للمسلمين في هذه البلاد لا أقول عائقاً وإنّما ثقلاً يحملونه على عواتقهم طِوالَ عقود. هذا التحوّل رهيب وكبير جدّاً، وهو انقلاب جذري بالنّسبة للمسلمين، ويعتبر حالة نادرة من نوعِها. هذه الحالة من المفروض أن تقوم حولها دراسات كبيرة جدّاً.

ـ لعلّك تشير إلى الوجود الإسلامي في عهد الحبشة وعهد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عندما كان المسلمون أقلية في مجتمع غير مسلم؟

* أنا عندما أقول إنّ هذه الحالة نادرة؛ أعني أنّ هناك سوابق تاريخية منذ عهد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم. لكنّ وجود المسلمين في الحبشة كان وُجوداً عابراً. كان وجود المهاجِرين عابراً وتأثّر الواقع بهم أحياناً مثلما حصل في شرق آسيا وأصبحت دِيانة المهاجرين هي الغالبة. لكن لماذا وضع المسلمين في أوروبّا وضع فريد؟ أنا أشبِّه هذا الوضع كالذي يزرع عضواً في جسم. يحتاج هذا الزّرع إلى دراسة للجسم وللعضو معاً. هل يقبل الجسم العضو؟ وهل يقبل العضو الجسم؟ حتّى لا يحدث في المستقبل رفض لهذا العضو. من النّاحية البيولوجية لا يستطيع أحد أن يزرع شيئاً بدون دراسة، وهذا الزّرع الذي نتحدّث عنه هو زرع اجتماعي.

ـ كأنك هنا تؤكد الفكرة الرائجة في الغرب؛ وهي أنّ الإسلام دخيل على أوروبا، بالرغم من الوجود الإسلامي التاريخي في الأندلس ومن وجود شعوب مسلمة في منطقة البلقان؟

* أنا أتكلَّم من النّاحية الحضارية. أنا لا أعتقد أنّ المسلمين هم غرباء على هذه الحضارة. وهذا جزء من الدراسة التي كان ينبغي أن تقوم. أنا لستُ متشائماً، بمعنى أنه سيحصل في النتيجة وبشكل حتمي رفض لهذا العضو (المسلمون) في الجسم الأوروبي. فالقوانين العلمانية تضمن الحقوق الدينية، ومن المفروض أنها لا تفرّق بين دين ودين. والإسلام في حدّ ذاته يقبل الآخر. ويستطيع المسلم أن يطبِّق دينه في أيّ جوّ من الأجواء باعتبار أنّ الشريعة التي يدين بها هي شريعة ميسّرة ومرنة تتأقلم مع أوضاع مختلفة. إنّ الشّريعة في وقت الضّعف ليست كالشّريعة في وقت القوّة، والشّريعة في وقت الضِّيقِ ووقت الشّدّة ليست كالشّريعة في وقت السّعة. هذه الدّراسة كان لا بدّ منها ونحن نتكلّم عن النّقاط الكبرى لهذه الدّراسة، وكان من المفروض أن تغوص في التّفاصيل. تمكّننا هذه الدّراسة من رِبح وقت كبير جدّاً بدلاً من التجريب والتعثّر، وتمكّننا من السّير على بصيرة منذ البداية. يجب أن تكون الدّراسة متمكّنة من النّواحي الجُمْلية والتّفصيلية.

أعُود وأقول؛ إنّ المسلمين ليسوا غرباء على هذه الحضارة. وأوّل سؤال تبدأ به هذه الدّراسة هل المسلم غريب عن هذه الحضارة؟. كلاّ. إذا أردنا أن ننظر إلى الحضارة الإنسانية فهي ليست مِلكاً لشعبٍ. الحضارة هي إنسانية اشترك فيها بنو الإنسان منذ فجر التّاريخ إلى يومنا هذا. لا يزال النّاس من جميع الأجناس واللّغات يُمدّون هذه الحضارة بأشياء كثيرة، والمسلمون خلال هذا التّاريخ كانت لهم مساهمة كبيرة لا ينكرها عدوّ ولا صديق. فمثلاً لو أتيت بقبائل الأمازون أو أولئك الذين لا يزالون يعيشون على الطّريقة البدائية فربّما تجدهم غرباء وقد لا يتأقلمون مع هذه الحضارة. المسلمون تأقلموا إلى حدّ كبير مع هذه الحضارة، ولا يجد المسلم نفسه غريباً، لأنّ هذه الحضارة تحمل قيماً إنسانية كونية عالمية. هذه القِيَمُ عينها هي قيم الإسلام. من حيث الشّمول ليس هناك تعارض، وهذا العضو يمكن أن يُقبل، ولكن هناك تفاصيل تحتاج إلى دراسة ووقفة طويلة.

ليست هناك يد خفية تُنظّم هذا الوجود في تفاصيلِه. فالتّفاصيل ضرورية جدّاً ولا بدّ من دراستها بحيث يعيش المسلم إسلامه وهو مطمئنّ ومرتاح ولا يعيش وهو في ظنِّه أنّه مقيم على معصية أو مخالفة شرعية كبيرة. وهذا جانب كبير من جوانب الاستقرار يساعد المسلم على أن يُنتج ويتقدّم. الاستقرار أمر ضروري جدّاً، ولذلك من الأمور التّفصيلية التي بدأت ولا تزال على استحياء في نظري هي التّفكير في إنتاج فقه للأقليات. هذه الفكرة أعتبرها رائدة، وإن كان عارضها بعض النّاس بحجة أنّ هذا الفقه يُراد منه تقسيم الإسلام إلى إسلام أمريكي وغيره وأنه ليس هناك أقليات. مثل هذا الكلام هو كلام عاطفي خَطابي ولا أعتبره علمياً. من النّاحية العلمية؛ يريد هذا الفقه أن يتأسّس على الأسس الشّرعية والأصول الشّرعية ويريد أن ينضبط بضوابط الاجتهاد الشّرعية. ينبغي العلم بهذه الشّريعة وبروح هذه الشّريعة. الاجتهاد نوعان: النّوع الأوّل هو الاجتهاد الاستنباطي، وهو استنباط الأحكام من النّصوص ومعظمه قد فُعل، لكن لا يُغْلقُ بابُه لأنّه قد ينقدح للأوائل حكم من نصّ من النّصوص وينقدح لِلأواخر حكم آخر من هذه النّصوص. وقد تمّ تجريب هذا الاستنباط عبر التّاريخ لكن هذا النّوع يبقى محدوداً.

أمّا النّوع الثّاني فهو اجتهاد التّنزيل. فأنت عندما تقول لبعض النّاس ينبغي أن تنظر إلى الواقع، يقول لك أيُّ واقع هذا، إنّه بدعة. هذا الكلام لا يقوله الرّاسخون في العلم أبداً. كلمة الواقع هو تعبير صحفي، أمّا التّعبير الأُصولي فهو عندما يطبّق مسلم حكماً من الأحكام فهو لا يطبِّق الحكم التّكليفي فحسب؛ إنّما يَمزِج بين الحكم التّكليفي والحكم الوضعي. ذلك أنّ الحكم التّكليفي المستنبط من نصّ من النّصوص هو ثابت في المجرّد. إذا سألتني مثَلاً: ما حكم صلاة الظُّهر أقول لك بأنّها واجبة، لكن إذا أردت أن أكون واقعياً أكثر أوجِّه إليك سؤالاً قبل أن أُجِيبك. أقول مَن المقصود بالصلاة؟ فإن هنا المقصود هو طفل صغير أجيب بأنّ الصّلاة ليست واجبة عليه، وكذلك المرأة الحائض، أما المسافر فتجب عليه ركعتان. ويسألني سائل فيقول: هل تجب عليّ صلاة العصر والساعة تشير إلى الحادية عشرة، فلا تجب صلاة العصر. عندما يتعلّق الأمر بالتّطبيق لا بدّ من معرفة الواقع الذي يُنزَّل عليه الحكم، لأنّه ليس هناك حكم تكليفي ينطبق على أرض الواقع إلاّ إذا نظرنا إلى تَوفّرِ الأسباب وتَوفّرِ الشّروط وانتفاء الموانع. هذا هو التّأصيل لهذه القضية، وهذا الاجتهاد هو الذي أذن به القرآن والسنّة، بل دعتا إليه، وهو محلّ إجماع ولا أحد ينكره. لقد نصّ الله سبحانه وتعالى على كثير من المُناطات، أي بلفظ آخر المعنى الذي يرتبط به الحكم. عندما سألت هند بنت عتبة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم هل يجوز لها أن تأخذ من مال زوجِها من غير إذنِه، أجابها: "خذي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف". لقد دَلّ هذا على أنّ المناط في النّفقة هو الكفاية، لكن القول أنّ الكفاية خمسة أو عشرة أورو هذا أمر لا يدرَكُ إلاّ بالاجتهاد والنّظر والظنّ. وعندما تَكلّم الله سبحانه وتعالى عن جزاء الصّيد بيّن لنا (فجزاء مثل ما قتل من النَّعم)، بمعنى أنّ المناط هو المثلية، لكن أن نقول بأنّ المثل هو البقرة لحمار الوحش أو هو غيرها لا يدرك إلاّ بالقياس والاجتهاد. كذلك قوله تعالى "وأشهِدوا ذَوَي عدل منكم"، معنى ذلك أنّ العدالة هي المناط الذي تعلّق به الحكم، ولكن لم ينص على كلّ العدول في الدّنيا فتَرك لنا جانباً كبيراً من الاجتهاد بحيث نجتهد فيمن هو العدل من غير العدل من النّاس، ولذلك يجتهد القاضي فيأتيه رجل فيردّه ويقول له: أعتقد أنّك لستَ بعدلٍ، ويأتيه آخر فيقبل شهادته لأنّه يغلبُ على ظنّه أنّه عدل.

هذا النّوع من الاجتهاد لا أحد ينكره، واجتهاد الأقليات سيكون أغلبه في هذا الاتّجاه. أنا لا استبعد أن يأتي الأواخر فيجتهدون ويفهمون شيئاً لم يفهمه الأوائل في فقه الأقليات، وحتّى فقه النص. وهذا ما قاله ابن مالك في مقدّمة كتاب التّسهيل "إذا كانت العلوم منَحاً إلهية وعطايا ربّانية فلا يبعد أن يدخّر الله لآخر هذه الأمّة ما عسر فهمه على أوّلها". هذا كلام جميل جدّاً.

ـ ذكرتَ أن تحوّل الحضور الإسلامي في الغرب كان مفاجئاً وعفوياً، وأشرتَ إلى قلة الدّراسات العميقة لفهم هذا الواقع الجديد. هل نفهم من كلامك أنّ نقص الكفاءات هو من التّحديات القائمة أمام هذا الحضور؟

* من بين التحديات المطروحة على المسلمين في هذه البلاد هو غياب المراكز البحثية. قضية الوجود الإسلامي درَسها كلّ النّاس في هذه البلاد تقريباً ما عدا المعنيين به. جُلُّ البحوث قام بها غير المسلمين، رغم أنّ هذا واجب ديني.

ـ على ذكر أهمية الدّراسات؛ هل هناك حاجة لدراسة المجتمعات الغربية من طرف المسلمين بخلفية ما سمّاه بعض الداعين إلى ذلك "الاستغراب" مقابل "الاستشراق" وهو دراسة الشرق الذي يُختزل أحيانا في المنظور الغربي في الإسلام وأهله؟

* أنا اعتقد أنّ هؤلاء المسلمين الذين يعيشون في الغرب هم غربيون. هم أبناء هذه الحضارة، فالمسلم الذي نبَتَ وتعلّم هنا لا تجد فَرقاً بينَه وبين أيّ رجل غربي آخر من ناحية الثّقافة الغربية. فبالتّالي لن يواجهَ المسلمون وخاصّة الجيل الثاني مثل هذه المشكلات التي واجهها الجيل الأوّل. نعم البلاد الإسلامية الآن هي في حاجة إلى دراسة الغرب، ولا أظنّ أنّ هذا موضوعنا. سيوفّر لنا الجيل الثّاني وقتاً كبيراً في دراسة الغرب باعتبار أنّه متشبِّع بالثّقافة الغربية، ويعرف ما فيها من سلبيات وايجابيات. نحتاج إلى دراسة عميقة لفهم الحضور الإسلامي في أوروبّا. فرغم أنّ الجيل الثّاني قد نبَتَ هنا وتشبّع بثقافة هذه البلاد؛ إلاّ أنّه يجب دراسة هذا الجسد، وهل بإمكانه أن يقبل العضو. علينا تشريح هذا الجسد على المستوى النّظري والواقعي. كثير من القوانين تكفل الحقوق الدّينية، ولكن تجد داخل المجتمع أشكالاً متنوّعة من الرّفض. علينا تفكيك هذه الإشكالات قصد معالجتها، لأنّ أسباب الرّفض متنوّعة ومتشابكة. أمّا أن نعتبر كلّ النّاس شيئاً واحداً ويفكّرون تفكيراً واحداً فليس هذا من نتائج هذه الدّراسة التّشريحية العميقة.

ـ كثر النقاش حول مسألة جواز أو عدم جواز إقامة المسلم في بلد غير مسلم. ما رأيك في هذا الموضوع. وهل تعتبر أنّ هذه المسألة قد تم تجاوزها في ظل الحديث عن التوطين والاستقرار؟

* أنا أريد أن أَلْفِت الانتباه إلى مسألة جواز إقامة المسلمين في هذه البلاد. عندما نقول مثل هذا الكلام نتحمّل مسؤولية كبيرة. هناك خطاب آخر يقول: لا تجوز الإقامة في هذه البلاد، ويقدّم أصحاب هذا الخطاب الأدلّة على ذلك، ونقدّم نحن كذلك الأدلّة المضادّة ونقولُ يجوز ونستدلّ على ذلك بهجرة الحبشة وغيرها.

قولنا بجواز الإقامة هذا يجعلنا نتحمّل مسؤولية كبرى. ولكن عندما ننظر في المصالح التي لا بدّ منها لكلّ جماعة من البشر؛ فإنّنا ننظر إلى مصالح المسلمين، وعلى رأس هذه المصالح مصلحة حفظ الدّين. ليست لنا دراسات، كيفَ يكون حال الوجود الإسلامي بعد مائة سنة؟. كيف نتصوّر الآن واقع الجيل العاشر من حيث الالتزام بالدين؟. هناك احتكاك بين الأطروحتين، نحن ندفع إلى التّوطين واستقرار هذه الجماعة المسلمة في هذه البلاد، وغيرُنا يدفع في الاتّجاه الآخر وله الحق في ذلك، يدافع عن فكرته وفلسفته ويرى أنّه لا يجوز للمسلمين الاستقرار في هذه البلاد.

في غياب هذه الدّراسة الشّافية الوافية؛ كيف ندفع النّاس إلى الاستقرار وكيف نستطيع أن نخوض هذا الصّراع ونوّجه التّوجيه الصّحيح؟ وكيف نكون مطمئنّين على الأجيال الآتية أنّها ستظلّ محافظة على دِينها؟.

هذه المسألة من التحديات الكبرى، وينبغي لمراكز الأبحاث المؤهّلة أن تدرسها، وينبغي أن يُصرَف الشّيء الكثير في هذا الاتّجاه. بناء الكفاءات التي تحمي هذا الوجود وتُفكّر فيه أَوْلى من بناء المساجد، أقصد بناء الجدران. بناء المساجد أمر ضروري ومهمّ وأنا لا أقول غير ذلك، لكن ما قيمة الجدران إذا كانت فارغة؟. هذا هو التحدّي، وينبغي أن يُلْفت إليه النّظر حتّى يطمئنّ المسلمون على وجودهم سالمين في هذه البلاد. عندما يسلك المسلمون هذا الطّريق؛ إنّما يريدون تحقيق الاستقرار من جهة والحفاظ على هُويتِهم من جهة أخرى، من أجل نفع هذه المجتمعات. المسلم عندما يستقرّ ويفهم وجوده فهماً صحِيحاً يصبح عضواً له حقوق وعليه واجبات، وعليه أن يضحّي مثل أفراد هذا المجتمع.

ـ هذا ما يُطلَق عليه مجتمع السّفينة، التي يعيش فيها الناس جميعاً المصير نفسه، .. أليس كذلك؟

* بالضبط، مثلما كان المسلمون في الحبشة وعرضوا على النَّجاشي أن يشتركوا معه في الحرب على عدوِّه وقدّموا أنفسهم وأرواحهم، ولكن النجاشي اعتذر وأبى وقال لهم: أنتم ضيوفنا. المهمّ؛ إذا فهِم المسلم وجوده كان وُجوداً إيجابياً. إذا بقي يقدّم رِجلاً ويؤخر أخرى، وإذا انعزل وتقوقع؛ صار ثقلاً يحمله هذا المجتمع. ولا يرضى المسلم أن يكون عالةً على المجتمع.

ـ حسب رأيك؛ ما هي المجالات التي يستطيع أن يقدِّم فيها المسلمون لهذا المجتمع حاضراً ومستقبلاً؟

* المسلمون ككلّ شرائح المجتمع الأخرى على اختلاف مستوياتهم وميولهم، وعلى اختلاف قدراتهم، يكون لهم نفعٌ في جميع المجالات. المسلم كالغيث حيثما حلّ نفع. هكذا ينبغي أن يكون المؤمن. في هذه المجتمَعات البناء الأسري هشّ والقيم مختلّة أو مهتزّة. وهذا ينبئ بخطر على هذه المجتمعات. وتكون إفادتنا في هذه القيم الاجتماعية والأسرية الراسخة في ثَقافتِنا. فالكبير يرحم الصّغير، والصّغير يوقّر الكبير. ومع الأسف تختفي هذه المعاملات في زخم الماديّات. في هذه المجتمعات خير كثير، وكأن الله سبحانه وتعالى أرسل إليها المسلمين لتكميل ما ينقصها من الخير. الأوروبي الملحد يواجه الحياة بفلسفة الخوف، على عكس فلسفة المسلم التي تقوم على الاطمئنان. فالأوّل تجده قلقاً، وأما الثّاني فتجده على الأقل أقل قلقاً. ينبغي على المسلمين أن يبرَعوا في هذه القيمِ ويُبْرزوها في مجال الدّراسة وفي الميدان العَمَلي. (قدس برس)

 

 










شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي