سارا زي تقدّم البوب آرت بصيغة عصر الإنترنت

2020-11-11

أشياء تلمع على وقع مصادر صوتية وضوئيةأبو بكر العيادي

رأت الفنانة الأميركية سارا زي النور عام 1969 في بوسطن، ونشأت بين الرسوم والخرائط، فأبوها كان مهندسا جعل مكتبه في بيته، هذا البيت الذي كانت تزيّنه لوحات بوستر لروبرت كلارك الشهير بروبرت إنديانا، أحد مشاهير البوب آرت، وكذلك بوستر آخر للياباني هيروشيغه، وقد تأثّرت بهما معا، فكانت تعشق النقش والرسم والبوب آرت.

ولاسيما أنها كانت ترافق أباها منذ صغرها إلى المتاحف والمعارض ما رغّبها في الفنون وأعلامها. من ذلك مثلا تأثّرها بجاكسون بولوك، وسعيها إلى الإلمام بخياراته المتعدّدة بمرور الزمن، لفهم المراحل التي تمرّ بها تجربة معينة وكيف تنضج وتتطوّر.

عُرفت سارا زي كفنانّة تنجز منحوتات عرضية زائلة، تحتوي على قطع عديدة من أشياء المعيش اليومي، تقوم بتجميعها وإلصاقها في محامل صلبة من الخشب أو من المعادن، وتوليفها في أشكال خفيفة، هشّة، متمدّدة.

وغالبا ما تكون أعمالها متسقة مع البنية المعمارية لأماكن العرض، حيث اعتادت أن تخلق بنى معقدة مستوحاة من هندسة المدن، حيث المنعرجات والمتاهات والتقاطعات. كما هو الشأن في عملها الضخم “الذين لا يُحصَون عددا”، وفيه توازن رائع بين الخشب والرفوف المعدنية والقوارير البلاستيك ومعلبات الحليب.

عمل يستطيع الناظر إليه عن قرب أن يتأمل تلك البنيات المتشابكة، ومحاور التنقل المعقدة، والمسالك التي تعزّزها شبكات أسلاك وكوابل معدنية، تغوص في عالم صغير يحيل على الإعمار المتنامي مثلما يُحيل على العنصرين العضوي والنباتي.

بدأت تعرض أعمالها منذ عام 1999 في بعض المتاحف الأميركية مثل متحف الفن المعاصر بشيكاغو، ومتحف بوسطن، ومتحف وايتني للفنون الأميركية بنيويورك، ثم خارج أميركا في مؤسسة كارتيي للفن المعاصر بباريس، وكونستال بمالمو، ومركز بالتيك للفن المعاصر بمدينة غيتشيد بإنجلترا. كما ساهمت في بينال برلين عام 1997، وبينال فينيسيا عام 1999، وبينال ليون عام 2009.

التحامات مضيئة بين النحت والهندسة
وتعتبر سارا زي من جيل الفنانين الأميركان الجدد، الذين قطعوا مع المدارس التي سادت ما بين الستينات والثمانينات كالتصويرية والتقليلية، واختاروا سبلا مغايرة، تأخذ بأسباب هذا العصر المتسارع. فمنذ تخرجها في جامعة ييل عام 1991، اتجهت إلى استعمال الملتيميديا لابتكار أعمال تجمع بين التصوير الشمسي والرسم والكولاج، ولم تقحم أشياء المعيش اليومي إلاّ منذ أواسط التسعينات عقب سفرها إلى الهند، فقد تأثّرت ببعض التجارب هناك، فصارت تبدع منحوتات صغيرة من أشياء خالية من القيمة الجمالية كالورق الصحي مثلا، ثم وسعت دائرة اختيارها لموجودات المعيش اليومي، كسدّادات القوارير، وأعواد الكبريت، والأزرار، والكوابل، وخيوط الصنارات، وقطع القماش، والشموع، واللمبات، والجدائل الزخرفية الملونة، والمشاجب الخشبية، والدلاء والسلالم وحتى النباتات والإسفنج..

كلها تستعملها سارا زي لتنجز أعمالا فنية بديعة، بعضها موضوع على رفوف معدنية، أو مبسوط على الأرضية، وبعضها ينبع من الأرض مثل آثار أركيولوجية تظهر عند الحفر، أو يتدلى من السقف، أو يخترق جدارا هو من صميم العمل الفني المعروض.

ومنذ ذلك التاريخ، أي 1996 تحديدا، برزت سارا زي كمتخصصة في العوالم الصغرى، المعلقة، أي تلك التي تتحدى الجاذبية، ولفتت الانتباه بأنصابها “الجوية”، التي غالبا ما تنجزها على عين المكان، وتتميز بالتحامات مضيئة بين النحت والهندسة.

ولئن كان عالم سارا زي يعجّ بأشياء تبدو كالنجوم الطليقة في السماء المظلمة، حتى لكأنّها موضوعة مثلما اتفق، فإنها في الواقع تخضع لنظام دقيق يكاد يكون ميكانيكيا، حيث تحل كل جزئية مكانها، بطريقة مدروسة، لها أثرها في المشهد العام، الذي يخلق أحيانا ما يشبه كواكب تتراقص حسب مشيئتها، والحال كما أسلفنا أنها خاضعة لنظام مدروس.

موضوع يهمك : الغرافيتي.. فنٌّ الأوقات الصّعبةِ

تلك الأعمال تذكّر بتجارب أنصار الواقعية الجديدة، مثل أعلام الفن السويسري جان تينغلي، أو بيتر فيشلي، وديفيد فايس، لاسيما في شريطهما التجريبي “مجرى الأمور”.

هذا الولع بالكواكب نجده حتى في عدة عناوين من عناوينها، مثل “بلانيتاريوم” التي توحي بمنظومة إيكولوجية غريبة، حيث ماكيت علمية ضخمة تحتوي على حشد من الأشياء تلمع على وقع مصادر صوتية وضوئية، وكأنها تعيد تشكل الكوسموس إلى مستوى الواقع البشري، كي تقرّب إلى الأذهان معنى النظام (الكوسموس) والفوضى (الخاووس).

إن ما يميّز أسلوب سارا زي أنها لا تضع حدودا بين الرسم والنحت والتنصيب، فهي حريصة على أن يمتلك المشاهد رؤية فنية شاملة شبيهة بالمقاربة السينمائية، حتى يعرف كيف يبحر في العمل الفني، ويتساءل من أين تأتي الأشياء وإلى أين تمضي، وبدل أن يقرأ كلمات، يقرأ الصور.

تقول سارا زي “ما يهمني ليس إظهار الأشياء على قاعدة تمثال، بل فسح المجال لمبدأ استكشاف ولحظات اكتشاف لها نوعية زمنية فريدة. قد تكون وسائطي هي الزمان والمكان وليس الرسم والنحت. فأنا أتساءل كيف نخلق هذه الأماكن واللحظات التي نتجلى فيها لأنفسنا”.


*كاتب تونسي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي