
بعد حوالي خمسين سنة على انشائه يتعرض (نصب الحرية) إلى نوع غريب من الهلاك المعنوي، مادته الزعم والادعاء وقول نصف الحقيقة. كان ذلك النصب الذي لم يشهد مبدعه الرائد جواد سليم افتتاحه عام 1961 بسبب وفاته شابا قد شكل واحدة من اهم علامات بغداد المعاصرة. شيء عظيم منه ترسب في قاع الوجدان والضمير العراقيين، وهو ما وقف حائلا أمام محاولات هدمه المتعددة، وهي محاولات غلب عليها طابع النزاع الحزبي الرخيص والمتهالك. نزاع صنع ركاما من الاخطاء التي مرت من تحت النصب من غير أن تخدش اي جزء منه. لقد كان لذلك العمل الفني الرائد في قيمته الفنية والتاريخية فضيلة اخلاصه لكلمة (الحرية) في بلد كانت الحرية فيه هي أكثر عناصر الوضع البشري تعرضا للتناسي والقمع والتغييب، لا من قبل المؤسسات الحاكمة وحدها بل وأيضا من قبل كل المؤسسات الحزبية والدينية الموالية والمعارضة على حد سواء. كان ذلك النصب وحده مبدئيا في عدم التخلي عن سبب وجوده: الحرية كونها مصدر استبسال وينبوع عيش. كان للمكان الذي أقيم فيه معنى رمزيا، اشتبك من خلاله وعي مختلف بالتاريخ بطريقة نظر متوازنة إلى الجغرافيا. في الباب الشرقي من بغداد التاريخية نهضت ساحة التحرير مركزا لبغداد المعاصرة، وكان النصب هو البوصلة التي تشير إلى ذلك التوازن. لم يتحاش جواد الاشارة الوصفية الى المعاني السياسية المباشرة التي كلف من أجلها بعمل النصب، غير أنه ذهب بتلك المعاني إلى حيزها الخالد من الوجود البشري، وهو أمر يقال أنه كان مصدر ازعاج للسياسيين، لكن تلك الحيلة وليس سواها هي القوة التي نجت بالنصب من تهلكة الانقلابات التي شهدها العراق بعد اقامته. فلا أحد في إمكانه أن يتنكر لمبدأ الحرية علنا (حتى اعداؤها)، فكان ذلك النصب في احيان كثيرة واجهة لفضيحة عاشها العراق زمنا طويلا. كان خياله نوعا من التعويض عن واقع مرير صار العراقيون مادة شقائه وحيرته واستفهامه. تسللت موعظة النصب الجمالية إلى عمق العاطفة الشعبية من غير أن تتخلى عن جوهر كثافة وعيها النخبوي. نجح جواد في أن يهبنا نوعا من الوعد الجمالي المشترك، الذي يكشف عن جوهر فكرة أن يكون المرء عراقيا خالصا. طوال خمسين سنة من التناقضات السياسية والثقافية والاقتصادية، عاشها العراق أحيانا وهو مغمض العينين كمن يسير في نومه ظل ذلك النصب عنوانا لحقيقة يعني الاعتراف بها بالنسبة للجميع نوعا من الذهاب إلى الأمل. علو موقع ذلك النصب جعل قوى التزييف كما نزاعاتها تمر من تحته من غير أن تفكر بتلويثه بهوائها الفاسد أو طعنه بحرابها التي لم يكن في إمكانها أن تتطلع إلى الأعالي. ولكن كما هو معروف فان زمن التناحرات الحزبية شيء وزمن الاحتلال الأمريكي وخدمه وصنائعه شيء آخر. وهكذا سيكون لنصب الحرية نصيبه من حملات التزييف والتضليل والخداع والافتراء الناعمة والتي هي جوهر ثقافة الاحتلال التي تهدف إلى اعادة صياغة الذاكرة العراقية.
2
في مقالة بعنوان (من مصمم نصب 14 تموز) نشرت في العديد من مواقع شبكة الانترنت وقد تكون جريدة 'المدى' لصاحبها فخري كريم وهو واحد من اكبر عرابي ثقافة الاحتلال الامريكي مصدرها الرئيسي (فهي نشرت هناك أيضا) بدت بلقيس شرارة كما لو أنها تلوح بالكشف عن حقائق خطيرة جديدة تتعلق بنصب الحرية، وهي حقائق شفاهية تأخر البوح بها نصف قرن، وبعد وفاة معظم شهود تلك المرحلة إلا فيما ندر. يصاب المرء بالحيرة بدءاً بالعنوان الاستفهامي. منذ أن وعيت إلى الدنيا لم اسمع بنصب فني يحمل اسم (14 تموز) إلا ذاك الذي يقف قريبا من باب القصر الجمهوري (ربما كان ميران السعدي هو الذي نحته) ولا أظن ان احدا من العراقيين يمكنه أن يشير إلى نصب الحرية إلا بالاسم الذي عرف به. ربما تكون الكاتبة قد استعملت الاسم الرسمي لذلك النصب. لا ادري ولكنّ لجبرا ابراهيم جبرا كتاباً بعنوان (جواد سليم ونصب الحرية). فهل لجأ جبرا إلى استعمال التسمية الشعبية وهو الذي كتب (الكراس التوضيحي) الذي وزع لمناسبة افتتاح النصب؟ لا استطيع الجزم هنا أيضا. شاكر حسن آل سعيد (رفيق رحلة جواد سليم الفنية) هو الآخر في كتابه (جواد سليم والآخرون) وفي معرض تحليله الاشراقي لمفردات النصب لا يذكر الاسم الذي عنونت شرارة مقالتها به. ما يهمنا أن المرء يكتشف من خلال قراءة تلك المقالة أن المقصود هو نصب الحرية. تاريخيا نعرف أن اللافتة التي وضعت عليها مفردات النصب هي من تصميم المعماري المعروف رفعت الجادرجي، وهناك ايضا من يقول أن الجادرجي كان الوسيط الذي رشح جواد سليم لعمل النصب امام الزعيم عبد الكريم قاسم (رئيس الوزراء يومها). وهذا لا خلاف عليه، فهو أمر لا يقود الخلاف عليه إلى شيء مفيد. هل كتبت شرارة مقالتها من أجل أن تؤكد هاتين البداهتين اللتين لا ينكرهما أحد؟ نعم ولا. لا، لأن هناك شيئا خطيرا حاولت الكاتبة أن تمرره مرة بالايحاء ومرة بالقول الصريح: كان الجادرجي هو ملهم جواد في تفاصيل النصب، ولم يكن جواد سوى متلق لاشارات ذلك المعلم الملهم. عنوان المقالة الاستفهامي لا يوحي بان السؤال يتعلق باللافتة التي وضع عليها النصب، بل بالنصب كله وهو ما يلمسه القارئ في سطور عديدة. من يقرأ المقالة جيدا ويتسلل إلى ما بين سطورها لا بد أن تصدمه النظرة الاستعلائية التي تلقيها شرارة على سليم، كونه واحدا من حواريي الجادرجي، وهو أمر لا تقره الوقائع التاريخية التي تظهر جواد في صفته زعيم تحولات فنية لا يزال دويها يسمع حتى يومنا هذا. في كتاب (شارع الاميرات) يتحدث جبرا ابراهيم جبرا عن البدايات التي شهدت انغراسه في ارض الثقافة العراقية، داعية حرية ومبشرا بالحداثة الفنية وكانت علاقته بجواد سليم واحدة من ركائز ذلك الوجود. كان جواد هو الموقد الذي انتهى اليه جزء من حطب جبرا. (كن منصفا) هو شعار جبرا في كل ما كتبه ناقدا ومؤرخا، ومع ذلك فان واقعة وجود الجادرجي ملهما لم ترد في كل ما كتبه جبرا عن مرحلة نشوء الحداثة الفنية في العراق، وكان جواد قلب تلك الحداثة. غير أن جبرا كما تظهره مقالة شرارة هو الآخر كان منتحلا وصغيرا. فالكراس التوضيحي الذي تم توزيعه اثناء افتتاح النصب هو في حقيقته من تأليف الجادرجي، الذي طلب بنفسه من جبرا أن يضع اسمه عليه. هل كان جبرا في حاجة إلى مثل ذلك المجد الذي ينطوي عليه كتيب توضيحي لا ينطوي على أية قيمة نقدية؟
3
من حق بلقيس شرارة أن تفخر بعبقرية الجادرجي، و نحن أيضا نفخر بتلك العبقرية التي هي جزء من عبقرية العراق، ولكن الجادرجي نفسه هو من اطاح بعبقريته المفترضة وابتذلها حين جعل العراقيين يتذكرون اسمه مقرونا بالعلم الذي صممه لحكومة الاحتلال بديلا لعلم العراق. علمه الذي اقرته دمى المحتل في مجلس الحكم ومن بينهم أخوه نصير سخر العراقيون منه ومن مصممه الذي لم ير من بين أعلام الامم كلها ما يثير مخيلته سوى علم الكيان الصهيوني. سيكون مهندسنا المعماري بذلك فاتحة تمهد لواحد من الوصوليين والمنافقين لكي يجاهر بكراهيته لفيروز وادوارد سعيد لا لشيء إلا لأنهما يزعجان احبته القتلة في تل ابيب. كنا نتمنى أن تبقى الخرافة في مكانها. خرافة (القصر البللوري) الذي يطل على الدنيا من خلال شناشيل بغداد والبصرة. لا يحتاج الجادرجي (باستثناء فعلته النكراء الخاصة بواقعة العلم) أن يبدو كما لو أنه معلم ينتحل الآخرون جزءاً من عبقرية رؤاه. يكفيه ما أنجزه على مستوى التصميم والتنظير والكتابة. يكفيه نصب الجندي المجهول الذي شكلت ازالته ضربة عنيفة لعاطفة البصر والبصيرة العراقية. ليس لدى الجادرجي ما يسترده من التاريخ. لقد أخذ حقه وعاش حياته كاملة متمتعا بموهبته وما جلبته تلك الموهبة إليه من احترام وتقدير.
شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد