كيف خططت الصين بصبر كي تنتقم من الغرب بعد قرن كامل من "الذل"؟

2020-10-21

الرئيس الصيني، شي جين بينغ

كان دينغ شياو بينغ ناجحاً لأنَّه فهم وحلَّ أحد القيود الرئيسية للاقتصاد السياسي: كيف تنجح في تنمية اقتصادك دون التخلي عن سيادة دولتك؟ كيف درست الصين تاريخها جيداً ووظفت مصادر قوتها لتضمن عدم تكرار "قرن الذل"؟

مجلة The National Interest الأمريكية نشرت تحليلاً بعنوان: "كيف حلَّ دينغ شياو بينغ مشكلة الصين التجارية؟ وماذا يمكن للولايات المتحدة أن تتعلم منه؟"، أعده سامو بورجا: مؤسس ورئيس شركة Bismarck Analysis الاستشارية.

كيف فاجأت الصين الغرب بهذه الطريقة؟

حدث تغيُّر عميق في النظرة الغربية للصين في السنوات العشر الأخيرة. فلم تعد هي حصان الجرِّ الهادئ للاقتصاد العالمي فقط، بل بات يُعتَرَف بالصين الآن باعتبارها المنافس العالمي الرئيسي للولايات المتحدة وحلفائها. وكما قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبيرغ، فإنَّ الصين "تقترب (منا) في الفضاء السيبراني، ونراهم في القطب الشمالي، وفي إفريقيا، ونراهم يستثمرون في بنيتنا التحتية الأساسية". لقد ولَّى منذ زمن طويل الوقت الذي كانت عبارة "صُنِع في الصين" تُطلَق باعتبارها مزحة.

 

والنخب الغربية تعلم أنَّها بُوغِتَت. ففجأة، صار يتعين عليها فهم الصين، لكنَّها تجد نفسها أمام أسئلة أكثر من الإجابات. مع ذلك، العالم المعاصر ليس المكان الوحيد الذي يمكن للمرء أن يجد فيه الإجابات. فحضارة الصين تبقى واحدة من أقدم الحضارات التي نعرفها.

قد يكون شي جين بينغ هو الرئيس حالياً، لكنَّه ورث الهياكل المؤسسية والأيديولوجية التي بناها دينغ شياو بينغ إبَّان قيادة هذا الأخير للصين في الثمانينيات. وقد أرست تلك الهياكل الأساسات لموقف القوة الحالي لبكين، ولم تكن من قبيل الصدفة. وهناك حقيقتان مهمتان أخريان. أولاً، كان دينغ ناجحاً. وثانياً، نجح لأنَّه فهم وحلَّ أحد القيود الرئيسية للاقتصاد السياسي: كيف تنجح في تنمية اقتصادك دون التخلي عن سيادة دولتك؟

دروس الصراع مع المغول

خلال عهد سلالة مينغ في القرن السادس عشر، كانت الصين بالفعل تتعلم كيفية إدارة التجارة بعناية لصالحها مع قوة آسيوية منسية نسبياً: المغول.

كان ألتان خان حاكماً مغولياً قوياً في القرن السادس عشر. وبعكس الصورة النمطية السائدة عنه باعتباره أمير حرب متعطشاً للدماء، كان الخان رجل دولة قديراً. وكان أيضاً معجباً كبيراً بالثقافة والمجتمع الصينيين. وكان يهدف كذلك لتحسين الأمن الغذائي المغولي خلال فصل الشتاء من خلال التجارة مع الصين، وأقنع الصينيين بحكمه لكل المغول.

عانت الصين العديد من المجاعات عبر التاريخ

أدركت سلالة مينغ الحاكمة في الصين أنَّ التجارة ستدفع إلى نمو سكاني في صفوف المغول، وأنَّه إذا تزايدت أعداد المغول بصورة كبيرة، ستصبح الصين عاجزة تماماً عن صد هجماتهم. ومع أنَّ الصين كانت ستستفيد من التجارة مع المغول، كان المغول سيستفيدون أكثر، وبالتالي يهددون الأمن الصيني.

غزا الخان بكين في 1550، ثُمَّ مجدداً في 1571، وفرض معاهدة واتفاقاً تجارياً استمرا قرابة العام حتى نكثه الصينيون.

وبدلاً من أن يترأس الخان لإمبراطورية مغولية ممتدة من شأنها أن تهيمن على الصين، نجحت سلالة مينغ في إجباره على إقامة علاقة تابع من خلال تقييدها للتجارة مع المغول. 

في خريف عام 1860، احتلت القوات البريطانية والفرنسية المدينة المحرمة في بكين، مقر الإمبراطورية الصينية لقرون. وكانت تلك نهاية حرب الأفيون الثانية التي نشبت على خلفية الصادرات البريطانية غير الشرعية من الأفيون إلى الصين. اقترح المندوب البريطاني، اللورد إلجين، إحراق المدينة المحرمة، لكن جرى إقناعه بأن يحرق قصور الصيف الصينية الخاصة بالأباطرة الصينيين فقط، لأنَّ ذلك من شأنه أن يُعرِّض التوقيع الوشيك لمعاهدة السلام للخطر.

نصَّت المعاهدة، من بين ما نصت عليه، على استسلام الصين، وتقنين تجارة الأفيون، وفتح ميناء تيانجين للتجارة الخارجية، وحق بريطانيا في شحن العبيد الصينيين بعقود إلى الأمريكيتين، والتنازل عن هونغ كونغ لبريطانيا وأجزاء من إقليم منشوريا لروسيا، وتعويض مالي ضخم تدفعه الصين لبريطانيا وفرنسا.

وعلى النقيض من المغول، بدأت الاستراتيجية الأوروبية الاستعمارية بفتح التجارة، ولم تنتهِ بها. وأتبعت القوى الأوروبية ذلك بحماية عسكرية وسياسية للمصالح الاقتصادية والأفراد في البلاد.

لماذا خسرت الصين أمام القوى الغربية؟

نجحت تلك الاستراتيجية مع القوى الأوروبية ولم تنجح مع المغول بسبب اختلاف واحد رئيسي: في حين اعتمد المغول الحبيسون (بدون منفذ إلى الساحل) على الصين لتحقيق النمو الاقتصادي، لم يفعل الأوروبيون ذلك. إذ كان لدى القوى الاستعمارية الأوروبية عالم كامل يتاجرون معه. فحين فرضت الصين حظراً على المغول، اضطر المغول للقبول بوضعية التابع على الرغم من الانتقام العسكري. لكن حين فرضت الصين حظراً على القوى الأوروبية، ربما لم ترد تلك القوى على الفور، لكنَّها ردَّت في النهاية، وبموارد أكثر بكثير. لقد استخدمت الإمبراطورية الصينية استراتيجية قديمة ضد لاعب جديد، وخسرت المقامرة.   

الصين 

وعلى مدار الخمسين عاماً التالية، عانت الصين سلسلة من الخسائر الإضافية لصالح كل قوة عالمية أخرى تقريباً، من اليابان وحتى الولايات المتحدة، وصل الأمر إلى ذروته باحتلال آخر لبكين عام 1901 على يد تحالف من ثماني قوى أجنبية عند نهاية حرب البوكسر (حرب الملاكمين). واختفت الإمبراطورية الصينية ككيان بعد ذلك بفترة قصيرة.

درس دينغ هذا التاريخ، وكان عازماً على ضمان ألا تعاني الصين الجديدة من نفس مصير سابقتها. أُسميَت الفترة بين بداية حرب الأفيون حتى تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949 في الصين باسم "قرن الذل"، وشكَّلت جزءاً محورياً في السردية التاريخية للبلاد، التي يُعَد فيها الحزب الشيوعي هو المجدد والحامي للاستقلال الصيني. ووفقاً للحزب الشيوعي، لن تُعوَّض هذه المهانات إلا بعودة الصين إلى الوضعية المهيمنة وامتدادها الإقليمي السابق، بما في ذلك تايوان.

ثم تولى دينغ شياو بينغ

لكن لم تكن هذه مجرد رغبة في الانتقام سمحت لدينغ شياو بينغ بالنجاح في إصلاح الصين. بل راقب دينغ، باعتباره طالباً للرأسمالية المعاصرة، عن كثب تنمية سنغافورة، التي أظهرت أنَّ المجتمع المنتمي إلى الثقافة الصينية لديه التقنيات الاجتماعية المطلوبة مسبقاً لاستخدام الأسواق بصورة بنَّاءة. وثانياً، كان يعلم أنَّ الصين بإمكانها فتح أسواقها بسرعة لتحفيز النمو الاقتصادي. وأخيراً، وهو الأهم، كان يعي أنَّ الصين، ومن خلال النهج التجاري الصحيح، مثلما يظهر في تاريخ الصين مع المغول والقوى الأوروبية الاستعمارية، يمكنها أن تفعل ذلك فيما تحتفظ بسيادتها وتُبقي النفوذ السياسي الأمريكي بعيداً. وقد نجحت مناورة دينغ، مع أنَّها تعارضت مع المنطق التقليدي للاقتصاديات الغربية.

يُظهِر التاريخ أنَّه لو اضطرت حكومة للاختيار بين النمو والحفاظ على نفسها، فإنَّها عادةً ما تكون سعيدة للتخلي عن النمو. وفي الوقت الحاضر، يمكننا أن نرى أنَّ العقوبات الاقتصادية منعت النمو وأثَّرت حتى على البنية التحتية القائمة في روسيا وإيران و–بأقصى درجة- في كوريا الشمالية. مع ذلك، يُفضِّل الثلاثة باستمرار تحمُّل الضرر الاقتصادي عن التخلي عن المزايا الجيوسياسية أو الأمنية أو العسكرية.

دينغ مع جيمي كارتر

يأخذ الباحثون وصناع القرار المعاصرون في الغرب استقرار الأنظمة السياسية باعتباره أمراً مُسلَّماً به، ويمنحون أهمية أساسية للسوق على حساب البنية التحتية الاجتماعية الأخرى، بما في ذلك الدولة نفسها. لكنَّ السوق لا يسبق الدولة، بل العكس، الدولة هي مَن تخلق الظروف اللازمة لازدهار السوق. وبوضع هذا في اعتباره، شرع دينغ في إصلاح الصين.

بعد وفاة ماو تسي تونغ عام 1976، أبقى خليفته هوا غوفينغ على نهج ماوي صارم لم يلقَ شعبية في أرجاء الصين، بل وكان أقل شعبية داخل الحزب الشيوعي. وكان الناس قد بدأوا في التنديد علناً بـ"الثورة الثقافية" حتى قبل وفاة ماو. وبعد عودته من منفاه الذي كان قد انتهى مؤخراً، جمع دينغ خلفاءه، ودعموا تلك الانتقادات، وسرعان ما أزاحوا هوا. وكان طريق دينغ إلى الأمام جلياً. نفَّذ دينغ إصلاحاً مؤسسياً مكَّن من تحقيق دفعة هائلة للنمو في الصين، دفعة أوصلتها إلى موقعها الحالي.

كان لدى دينغ هدفان أساسيان من سعيه لتحقيق هذا النمو: ضمان بقاء نظام الحزب الشيوعي الصيني، وتحسين الوضع الجيوسياسي للصين. وقد نجح بامتياز في كلا الهدفين. فلم يبقَ النظام وحسب، بل وظلَّ قائماً حتى بعد الاتحاد السوفييتي وما يزال يقوى أكثر. وعلى الصعيد الجيوسياسي، بدَّلت الصين المواقع مع الاتحاد السوفييتي لتصبح المنافس الرئيسي للولايات المتحدة. وباتت روسيا الآن تمثل شريكاً أصغر للصين في التصدي للغرب، بدلاً من أن تكون الصين شريكاً أصغر للاتحاد السوفييتي. 

ولم يكن الحزب الشيوعي تحت قيادة دينغ مفرطاً في الاهتمام بما إن كانت تفاصيل السياسة تتبع النظرية الشيوعية بحذافيرها أم لا. وكان لدينغ مقولة شهيرة: "لا يهم ما إن كانت القطة بيضاء أو سوداء طالما أنَّها تمسك بالفأر"، وهناك مقولة أخرى تعود لحقبة دينغ: "الثراء هو أمر رائع". والتفسير المقصود لهذا الموقف هو أنَّه طالما بقيت الصين في ظل حكومة شيوعية، فإنَّ أيَّاً ما يؤدي إلى النمو هو شيوعي، بما أنَّ النمو يُستخدَم لبناء الشيوعية.

مأزق الاستقلال الوطني والتنمية

في المقابل، كان دينغ مهتماً للغاية بما إن كان من شأن تفاصيل السياسة إضعاف السيادة والقوة الصينية أم تقويتهما. زار دينغ الولايات المتحدة عام 1979، وكان هذا أول حدث رئيسي في حكم دينغ. وإلى جانب لقاء الرئيس جيمي كارتر، سافر دينغ في أرجاء أمريكا. وعلى مدار رحلته التي استمرت 9 أيام، زار مقرات شركات كوكاكولا وفورد وبوينغ وبيكر هيوز، وزار مركز رحلات الفضاء المأهولة التابع لوكالة ناسا في تكساس، وغير ذلك. لم تكن هذه مجرد مناسبات لالتقاط الصور، بل خطوات تكنولوجية استراتيجية وذات صلة بالعلاقات العامة، كانت ضرورية بالنسبة لاستراتيجيته التي كانت قيد التطور آنذاك لإحياء التجارة والصناعة الصينية مع الولايات المتحدة.

زار دينغ أمريكا ليرى بأم عينيه تكنولوجيا التصنيع التي ستُنقَل قريباً إلى الخارج ويُعاد بناؤها في الصين. علاوة على ذلك، سمحت له الزيارة بتقديم صورة للصين باعتبارها بلداً صديقاً مسالماً لا يُشكِّل خطراً، وهو ما سيكون محورياً في عملية انفتاح البلد الذي كان ما يزال يُنظَر إليه باعتباره تهديداً شيوعياً خلال الحرب الباردة. ونَسَبَ الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، في محاضرة بجامعة إيموري عام 2018، الفضل لزيارة دينغ في تركها "تأثيراً مفيداً على الجمهور الأمريكي"، وأضاف: "بدأ الشعب الأمريكي، بسرعة جداً، ينظر بإيجابية إلى المعاهدة التي توصلتُ إليها مع جمهورية الصين الشعبية".

 الرئيس الصيني شي جين بينغ مع ترامب

بالتالي أمَّن دينغ مستوى واسعاً وغير مسبوق من التجارة الحرة على مدى العقود القليلة التالية. لكنَّه أولى عناية خاصة للتأكُّد من أنَّ الأموال والتكنولوجيا الأمريكية وحدها هي ما يدخل إلى الصين، وليس أي أمريكيين أو أفكار أمريكية. 

وبمرور الوقت في الثمانينيات، تنامت بهدوء وصبر قدرة الصين على الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيا والخبرة الأمريكية. وحتى بعدما غادر كارتر الرئاسة، انتخبت أمريكا رونالد ريغان رئيساً، وكان من الواضح أنَّه غير مهتم بالتراجع عن اتفاق كارتر ودينغ وركَّز في المقابل على التهديد الماثل على الأمن القومي الأمريكي من الاتحاد السوفييتي، ولم تكن هذه مشكلة بالنسبة للصين. وتركَّزت المخاوف الاقتصادية الأمريكية في الثمانينيات على اليابان التي تنمو سريعاً، وليس الصين.

راهن دينغ على أنَّ الغرب انتصر على بقية العالم بالتجارة طوال فترة طويلة للغاية، لدرجة أنَّ ذلك الغرب نسي مدى قوته إذا انعكس الوضع. وراهن على أنَّ الحرب الباردة أصابت الغرب بعمى أيديولوجي شديد يمنعه من رؤية الصين كتهديد أمني، وأعمته أيديولوجيا السوق الحرة كثيراً لدرجة تمنعه من إدراك أنَّ التجارة الحرة مع الصين كانت رهاناً خاسراً. وتماماً كما كان بإمكان المغول في القرن السادس عشر النمو بسبب التجارة مع الصين لدرجة تمنحهم الأفضلية المطلقة، كذلك كان بإمكان الصين عمل الأمر نفسه مع أمريكا. لكن بدلاً من فرض حظر على الصين كما فعلت سلالة مينغ مع ألتان خان، فتحت الولايات المتحدة بسرور أبوابها أمام الصين.

إنَّ تجربة الغرب، التي أدَّت فيها الثروة إلى ديمقراطية ليبرالية، هي تجربة مشروطة تاريخياً ولن تتكرر في الصين. وتنظر الصين إلى نفسها الآن أكثر من أي وقتٍ مضى في التاريخ المعاصر باعتبارها قوة قوية. وبمجرد أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الصيني نظيره الأمريكي، سيتمتع الحزب الشيوعي الصيني عملياً بشرعية لا نهائية في الداخل. وسيتطلَّب وقف الصين عن كونها سلطوية أو شيوعية تدخلاً عسكرياً أجنبياً يطيح بالنظام. لكن في المقابل، صارت النخب الغربية مدركة للحضور الصيني الضخم على المسرح العالمي، وربما تأخذ صفحة من كتاب دينغ شياو بينغ وتعيد تعلُّم كيفية استغلال السياسة التجارية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي