يرتاد العديد من الزوار حديقة جبال غريت سموكي الوطنية (Great Smoky Mountains National Park) الموجودة جنوب شرق الولايات المتحدة، خلال الصيف، لمشاهدة أحد أروع عروض الضوء في الطبيعة، والتي يؤديها الآلاف من ذكور اليراع أو الحباحب (fireflies)، وهي حشرة تضيء في الظلام، فتومض متوهجة معا في تناغم شبه تام.
ويؤدي الآلاف من ذكور اليراع هذا المشهد الأخاذ والذي ترفرف فيه أجنحتها في الظلام بينما تومض بطونها ببراعة وبشكل متزامن في عرض مثير للتزاوج.
لغز مثير
وبقدر ما هو جميل، فإن هذا العرض المتزامن كان لغزا لقرون. إذ باتت الكيفية التي يتناغم بها اليراع في رقصته الضوئية تلك لغزا محيرا للعلماء.
وتباينت التفسيرات التي تشرح هذه الظاهرة، فبينما أحد التفسيرات أرجع سبب هذه الظاهرة إلى كونها محض صدفة خالصة، رأت ورقة بحثية أخرى نشرت قديما في دورية "ساينس" (Science) أنها صورة وهمية يراها المشاهد عندما ترمش عيناه.
وقد أثبتت دراسات العلماء منذ ذلك الحين أن عملية الوميض المتزامن لليراع أمر حقيقي. كما أظهرت بعض النماذج الرياضية الأخرى أن هذه الومضات المتزامنة تتطور بمرور الوقت. إلا أن الآلية التي يحدث بها هذا التزامن باتت لغزا محيرا.
وحديثا، سلطت دراسة نشرت نتائجها في دورية "ذا رويال سوسيتي إنترفيس" (The Royal Society Interface) الضوء على هذه الظاهرة.
إذ سعت أوريت بيليج الأستاذ المساعد في جامعة كولورادو بولدر بالولايات المتحدة (University of Colorado Boulder) ورفاقها إلى فهم الكيفية التي تنسق بها هذه الحشرات البسيطة تلك العروض الفنية الرائعة.
وقد استهل الفريق دراسته بسؤال رئيس -كما يقول الفيزيائي وقائد الدراسة رافائيل سارفاتي في البيان الصحفي الذي نشرته الجامعة- "هل لحشرات اليراع هذه آليات مدمجة بداخلها تدفعها إلى القيام بهذا الوميض المتزامن؟ أم هي قرينة معتمدة على البيئة؟".
عروض فنية
استخدم الفريق تقنية التصوير المجسم لبناء شكل ثلاثي الأبعاد لومضات أحد أنواع اليراع المسماة فوتينَس كارولينَس (Photinus carolinus). ولاحظ العلماء أن تزامن ومضات اليراع ليس ناتجا عن آلية إيقاعية مدمجة داخل أجسامها، بل لمحاولتها تقليد بعضها بعضا.
وقد قام العلماء بتسجيل أكبر قدر من عروض التزاوج تلك والتي استمرت لمدة 90 دقيقة لليوم الواحد. ورصدوا اليراع عندما يبدأ في التوهج، ومن ثم الوميض الذي يحدثه بنمط متكرر، وما يليه من فترة توقف لبضع ثوان، انتهاء بالومضات متزايدة الوتيرة. ولاحظوا أنه بمجرد تزامن وميض اليراع، يظهر ضوؤها كموجات عبر تضاريس المنطقة التي تطير فوقها.
كما لاحظ الفريق أن شكل سرب اليراع كان يتبع تضاريس الأرض عن كثب. إذ ظل اليراع مرتفعا عن الأرض بحوالي مترين، وهو الأمر الذي يجعله مرئيا للإناث التي بقيت بالقرب من الأرض.
تزامن جماعي مثير
للتأكد من صحة استنتاجاتهم، عزل الفريق بعض الحشرات الفردية في خيام منفصلة. ولاحظ أن تلك الحشرات المعزولة فقدت الإحساس بالإيقاع الحادث خارج الخيام، إذ كانت تومض بشكل متقطع وغير متزامن نسبة إلى سربها الرئيس.
وأصبح الأمر أكثر إثارة عندما أُدخلت 15 يراعة إلى الخيمة. في البداية كان الوميض غير منتظم، ولكن مع زيادة عددها، بدأ اليراع في معاودة الوميض معا مرة أخرى.
ويفسر سارفاتي هذه الآلية قائلا "عندما توضع 20 يراعة معا، حينها فقط يمكننا محاكاة ومراقبة ما يحدث في البرية. إذ تبدأ في الوميض معا بشكل منتظم ومتزامن". وهو ما يعني أن التزامن حدث اجتماعي. إذ يرى اليراع بعضه الآخر ومن ثم يحاول تقليد بعضه بعضا، مما ينتج عنه موجات من الضوء ذات إيقاع باهر.
رغم ذلك، مازال سبب تزامن هذه الومضات لغزا. إلا أن إحدى النظريات قد اقترحت أن فترات الظلام -التي تستمر لبضع ثوان- تسمح للذكور برؤية الوميض الخافت للإناث ومن ثم تستجيب سريعا فور رؤيته.
وتعقب بيليج قائلة "يحدث ذلك النوع من التزامن في العديد من الأنظمة الطبيعية بما في ذلك خلايا القلب التي تنقبض وتنبسط مع بعضها. كما أن الخلايا العصبية في أدمغتنا لديها ذلك التزامن".
لذا فإن الفهم الأمثل لإحدى عمليات الطبيعة المتزامنة والموجودة في اليراع سيساعدنا على فهم حالات التزامن الأخرى المنتشرة في الطبيعة. كما أنه سيمكننا من حماية أنواع اليراع التي أخذت في الاندثار بسبب تزايد نسب التلوث الضوئي.