الأجناس الإبداعية المتنوعة تنطق لغة واحدة

2020-09-13

 

أيقونات البهجة والمرحالقاهرة - شريف الشافعي- في وقت يعترف فيه العالم بخطاياه الناجمة عن التنافر والتشرذم والتشظي، تعتصم الآداب والفنون الحداثية ببصيص من الأمل لحماية ما تبقى من المشترك الإنساني ومواجهة التمزّق والشتات والانهيار، ويُعد التقاء الأنواع والأجناس الإبداعية وتقاربها وانصهارها أو ما يسمى بـ”تراسُل الفنون” من أبرز المساعي لتخفيف حدة التقسيم وبلوغ التناغم والانسجام والوحدة.

من المبدعين الذين راهنوا على رأب الصدع بين الآداب والفنون، وتعزيز تحاورهما وتكاملهما؛ الشاعر والتشكيلي المصري مجدي نجيب، عبر دواوينه المتعدّدة، التي تحسّست طريقها إلى الظهور منذ أكثر من نصف قرن، وسلسلة معارضه الفنية المتتالية، وأحدثها معرضه الشخصي المُقام حاليا في غاليري قرطبة بالقاهرة، ويختتم في 16 سبتمبر الجاري.

يؤمن مبدعو جيل الستينات في مصر والعالم العربي، ومنهم مجدي نجيب (84 عاما)، برسالة الفن المجتمعية بالمعنى التقليدي، فالفن إبحار في الدهشة والمتعة وبالأهمية، هو تنوير عقلي وإصلاح وتوجيه.

ولأن الإبداع ضرورة حياتية للبقاء، فهو يستلزم النزف الروحي والمكابدة النفسية وخوض المعارك المُنهِكة ضدّ الخرائب والقُبح والظلام وقوى التسلط والشر، بغية التجاوز والتغيير.

في هذه المنظومة، تربّى نجيب ورفقاؤه على أن المبدع صوت جماعي معبّر عن الأمور الكبرى العامة، وإن كان يخرج من فم فردي وهمي، فالمثقف العضوي مرآة للجميع بآلامهم وآمالهم. اعتنى مجدي نجيب على وجه الخصوص بسلاح “تراسُل الفنون” المزدوج ولم يتخلّ عنه على مدار تجربته كشاعر وتشكيلي ومؤلف أغان، إيمانا منه بالتقارب بين الآداب والفنون حدّ التطابق والتماهي، فعليه أن يجهّز بالتة الألوان حين يشرع في كتابة قصيدة مشحونة بالصور، وعليه أن يقف على منبر الإلقاء الشعري وهو يتهيّأ لرسم لوحة ذات خيالات شاعرية جامحة.

  ما انفك الشاعر والفنان التشكيلي المصري مجدي نجيب يُتحف أحباءه وهو في عامه الـ84 بلوحات تجمع في ألوانها ومفرداتها التعبيرية جل الأجناس الإبداعية، لتأتي آثاره الفنية معزوفات غنائية مُتناغمة شكلا ولونا ورمزا، الأمر الذي منحه لقب “شاعر الألوان” بكثير من الصبر والجهد.

في الحالات كلها، فإن منطق الرفض والاعتراض قائم، فالإبداع في هذه الرؤية التوظيفية نضال و”وقوف في الممنوع”، كما سمّى نجيب إحدى قصائده، الأمر الذي حدا بصاحب دواوين “الحب في زمن الحرب” و”أغنية الرصاص” و”صهد الشتا” إلى قضاء سنوات من عمره في المعتقل في العهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.

طبيعة الحياة
حمل معرض مجدي نجيب الجديد كأحدث احتجاجاته وكمتمرد على زمن القتامة والحروب والانكسارات والخيبات والاستسلام للهزيمة، لكنه ثائر بألوان الزيت والأكريليك في هذه المرة عبر أكثر من ثلاثين لوحة مشحونة بحكايات التراث الشعبي وأيقوناته وسير الأبطال المرويّة وملتقيات الاحتفالات والأعياد والمناسبات الاجتماعية والدينية وأجواء اللعب والمرح.

أطلق الفنان من مستوى الصِّفْر حرفي الحاء والباء، أو أنه حذف حرف الراء من منتصف كلمة “حرب”، ليتحدّى بأعماله المحرّضة على المودة والانتصار والإرادة والمبادرة ستائر الكراهية والأدخنة والغبار والنفايات والأوضاع السلبية والمأساوية المفروضة من حوله، ساخرا بحسّ طفولي ونزق تلقائي ووهج صاخب ممّن يصفون العالم بالشيخوخة والجمود.

بالتوحيد بين الفنون مثلما تعوّد، حيث أسال الألوان الزاهية قصصا سردية وملاحم وقصائد، صار ممكنا لصاحب أغنيتي “ممكن” و”شبابيك” في معرضه التشكيلي الأخير أن يشقّ نفقا من نور في الجدار، ويهجر الأحزان كي “يسكن بيوت الفرح”.

وبدت الموسيقى الضاحكة، والغناء، والرقص الابتهاجي والابتهالي، من الفنون المتفاعلة والمنسجمة مع المشهد البصري المتحرّك في اللوحات.وفق تصوّرات الحداثة، فإن من أدوار الإبداع قيادة الواقع نحو المرجوّ والمنشود، وتحفيز الحياة على الرجوع إلى طبيعتها، أو صياغتها مرة أخرى.

مجدي نجيب راهن على رأب الصدع بين الآداب والفنون، معززا تحاورهما وتكاملهما

وهذا ما يرمي إليه تراسُل الفنون في جوهره، فإعادة التزاوج الحميم بين الأنماط والثيمات الإبداعية هي ولادة جديدة للحياة ذاتها في سياقها الآدمي الفطري الصحيح، القائم على التوافق والتفاهم وإذابة الفروق ونبذ الصراعات والنزاعات والعصبيّات البغيضة، على اعتبار أن الطرق مهما بدت متوازية فإنها في الحقيقة تلتقي في أكثر من نقطة.

لم يكن هناك هذا الفصل التعسفي بين جُملة الآداب والفنون التي انطلقت من الأبجدية ذاتها وتحدثّت لغة متشابهة عبر العصور، رغم تنوّع الأنماط التعبيرية، فلم تكن هناك فروق ملموسة مثلا بين الحروف والرسوم على جدران المعابد والكهوف، ولم تكن هناك مسافة بين الغناء والحداء وإنشاد الشعر، لكن مع الوقت تناءت أشكال الإبداع عن مصدرها الأصلي وتناست منبعها الواحد، فعكستْ بتبايناتها خارطة الجينات المعدّلة الباهتة، وتأزُّم العلاقات بين البشر، وتفتّت العالم واختلافه وتناحره.

عزف لوني

المناسبات الاجتماعية والأعياد في حكي بصري شيق

عن أعمال الفنان، أشار مدير غاليري قرطبة محمد الجبالي إلى أنّ “مجدي نجيب توغّل في التراث المصري واستطاع أن يعبّر عن الموروث الشعبي في أعماله بشكل قوي، سواء الفن الإسلامي أو القبطي أو الفرعوني، واستقى منه وأنتج أسلوبا خاصا به يعتمد على الأصالة الموجودة في الموروث والمعاصرة من خلال المعالجات التشكيلية الحداثية وبالتة ألوان شديدة الاختلاف والتميز”.

وأضاف “أعماله التشكيلية تتضمّن أيضا معزوفات غنائية، نجد فيها العازفين والعازفات والراقصين والراقصات، في تكامل واضح بين إبداعه التشكيلي والغنائي، وهو ما يعطي هذا المعرض طابعا خاصا ومتميزا”. عاد الإبداع المعاصر ليفطن أن الإنسان لا يطيق الحواجز، في الحياة وفي الفن معا، ودعمت ثورة المعلومات والاتصالات ومعالم القرية الكونية هذا الاتجاه وتبلورت فكرة الفنون والآداب “عبر النوعية”، وانصهرت الأشكال والألوان الفنية لدى مبدعين كثيرين في منظومة واحدة متعددة الإطلالات والمذاقات، كما في تجربة مجدي نجيب متنوعة القطوف. وجسّد مجدي نجيب في معرضه الأخير مواكبته لاحتمالات المواءمة التامة بين الصور والرموز المرئية والكلمات المنطوقة والأنغام المسموعة، كما تجاوز تقسيم أرسطو التقليدي للأجناس الإبداعية إلى ملحمي، درامي، غنائي، بدمجه بين الأنساق الثلاثة في لوحاته، وفي ذلك تلخيص لسيناريوهات عديدة خاضها، ويخوضها، في حياته.

ربما في هذا المزج ما يُشعر نجيب بالإنصاف بعض الشيء في ما يخصّ وضعيته كتشكيلي، فهو ليس من المصنفين نقديا وتنظيريا كفناني الصفّ الأول من الاستثنائيين والمبتكرين رسما وتصويرا، بعكس وضعيته كشاعر عامية ذائع الصيت، يتردّد اسمه إلى جوار أسماء مصرية كبيرة من قبيل صلاح جاهين، وسيد حجاب، وعبدالرحمن الأبنودي وعبدالرحيم منصور.

ميزان الإنصاف

السير والملاحم الشعبية في سرد لوني شاعري

أزاح شاعر الأغنيات الشعبية السيّارة براويز لوحاته الضيقة، ليفتحها مباشرة على قوس قزح، منحازا إلى مفاهيم السيولة والانسيابية والديناميكية في الأحداث التي تموج بالبشر والكائنات والمخلوقات والأشياء الدالة على الانطلاق والحيوية والبراح والفضاء، مثل الخيول والجِمَال والطيور والسحابات والطائرات الورقية وغيرها من المفردات الرمزية.

استدعى الفنان نسمات الحرية بتقصّيه التصرفات العفوية للكبار والصغار على السواء، من الذكور والإناث، مثل قرع الطبول في الشوارع والميادين في اللقاءات العائلية والمراسم الشعبية، والعزف على الآلات الموسيقية، واللعب بالعصيّ والسيوف، والتمايل طربا من النشوة.

وامتزجت في اللوحات الملامح الفرعونية والقبطية المميزة؛ خصوصا في وجوه النساء، فيما أحالت الزخارف والحروف العربية إلى الفنون الإسلامية ونقوش الخيامية وأشغال الأرابيسك وجماليات التطريز.

حملت اللوحات عمقا تاريخيا، ووعيا جمعيا، وأبعادا متجذّرة في الضمير والوجدان، والتقت فيها الحقائق الآنية والتخييلات السردية والشعرية والأساطير والسير المدوّنة والشفاهية، فتوحّدت عروس البحر وعروس المولد المصنوعة من الحلوى والمرأة العروس في ليلة زفافها، وكذلك أحصنة اللهو (الأراجيح) وأحصنة الفرسان وأحصنة الحناطير في القرى وأحصنة الحلوى.

اتفقت سائر الروافد المتشابكة في تجربة مجدي نجيب على تضفير ذاكرة بصرية جديدة ذات سمات مسرحية، تمنح الرائي تفاؤلا وخصوبة وازدهارا وشعورا بالاستئناس والاطمئنان إلى دفء مشاهدات الماضي والحاضر والآتي في بيئة محلية شرقية مفعمة بالنقاء والطهر والاخضرار والطين النيء، ما جعل المعرض دعوة إلى التنفّس والارتياح واسترداد الهوية في زمن عزّ فيه الهواء وضاقت المساحات وغابت الخصوصية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي