إذا لم يُنهِ تفجير بيروت نظام المحاصصة الطائفية، فكيف يمكن إنقاذ لبنان؟

2020-08-16

الرئيس اللبناني ميشال عون مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة المستقيل حسان دياب

بينما كان اللبنانيون يحاولون معرفة مصير الأهل والأحباب من ذلك الانفجار المروع، وكأن قنبلة ذرية انفجرت في المرفأ، كانت الطبقة السياسية تمارس نفس ألاعيبها المتمثلة في تنصل كل فصيل من المسؤولية وإلقائها على الآخرين، فهل حان الوقت لإسقاط ذلك النظام الطائفي الفاسد أخيراً؟

مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "الطبقة السياسية الفاسدة التي حطمت لبنان"، حاول الغوص في أعماق النظام اللبناني، للوقوف على مدى صلابته في مواجهة كارثة بحجم تفجير مرفأ بيروت.

أدى الانفجار الهائل الذي ضرب ميناء بيروت مساء 4 أغسطس/آب إلى مقتل أكثر من 200 شخص، وإصابة 6000 آخرين، وتشريد ربع مليون شخص، وفي الساعات القاسية التي تلت ذلك، بينما كان سكان العاصمة اللبنانية يعتنون بالجرحى ويمشطون الأنقاض بحثاً عن الناجين، اعتقد كثيرون في البداية أن الانفجار كان عملاً من أعمال الحرب أو الإرهاب. كان افتراضاً طبيعياً، فمعظم اللبنانيين لديهم خبرة أكبر بكثير في الضربات الجوية والسيارات المفخخة، مقارنة بالكوارث الصناعية.

لعبة اللوم

رداً على المأساة، يلجأ القادة اللبنانيون إلى استراتيجية أصقلوها على مدى عقود: إلقاء اللوم على السياسيين والفصائل الأخرى، ونظام فاسد خارج عن سيطرتهم، وإذا فشل ذلك فإن السبب هو القوى الخارجية والمحرضون. بعد أيام من الانفجار أعلن الرئيس اللبناني ميشال عون "أنا لست مسؤولاً"، وتابع عون: "ليست لدي سلطة التعامل مباشرة مع المرفأ"، قبل أن يشير إلى أن الكارثة سببها "تدخل خارجي".

ألقى بهاء الحريري، وهو زعيم سني ونجل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، باللوم على حزب الله، الميليشيا والحزب السياسي الشيعي، مدعياً ​​أنه "لا شيء يدخل ويخرج من الميناء أو المطار دون علمهم". رفض زعيم حزب الله حسن نصر الله بشدة الاتهام في خطاب متلفز، وحذر خصومه من محاولة "بدء معركة" مع الحزب بسبب الكارثة. وبينما حذا السياسيون الآخرون حذوهما، ونفوا المسؤولية، ووزعوا الاتهامات، ورددوا عبارات واهية، ازداد غضب اللبنانيين من طبقتهم السياسية، ومن حقيقة أنه في الأيام الأولى التي أعقبت الانفجار لم يغامر أي من قادتهم بالدخول إلى الأحياء المدمرة، حيث كانت العائلات الحزينة تدفن موتاها وتحاول انتشال ممتلكاتها من المنازل المدمرة.

مظاهرات لبنان

سياسي وحيد زار المنطقة دون أن يحاول إلقاء اللوم على الآخرين، لكنه صادف أن يكون رئيس فرنسا. بعد يومين من الانفجار، وبينما ظل السياسيون اللبنانيون بعيدين عن الأنظار في قصورهم المحصنة، عاين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الميناء المتضرر، وطمأن سكان الأحياء المدمرة. أسلوب ماكرون الشعبوي (لدرجة أنه دفع حارساً شخصياً حتى يتمكن من معانقة امرأة تبكي)، وانتقاده الضمني للنخبة الحاكمة في لبنان لم يغب عن سكان بيروت. بحلول الوقت الذي عاد فيه ماكرون إلى باريس، كان أكثر من 50,000 شخص قد وقعوا عريضة عبر الإنترنت تحثه على "وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي للسنوات العشر المقبلة".

إن دعوة فرنسا لإعادة فرض القهر الاستعماري على لبنان تتجاوز مفارقة تاريخية مهمة: كان الانتداب الفرنسي هو من أثقل لبنان بعد الحرب العالمية الأولى بنظامه السياسي الطائفي، الذي كان يهدف في الأصل إلى حماية مسيحيي البلاد. حافظت النخب اللبنانية على ترتيبات تقاسم السلطة المعقدة عندما حصلت البلاد على الاستقلال عام 1943، ووافقت دائماً على اختيار رئيس ماروني، ورئيس وزراء سنّي، ورئيس شيعي لمجلس النواب. قسمت مقاعد البرلمان في البداية على نسبة 6 إلى 5 من المسيحيين إلى المسلمين، ثم قسمت إلى 18 طائفة معترفاً بها رسمياً. أصبح النظام أحد الأسباب الجذرية للحرب الأهلية التي استمرت منذ عام 1975 إلى 1990، وطريقة للقادة الطائفيين لتقسيم وتقاسم الغنائم. (في نهاية الحرب، وُسِّع البرلمان وقسمت المقاعد بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين).

بفضل النظام الطائفي، تعثرت المؤسسات السياسية اللبنانية، وظلت البلاد تعتمد على حفنة من الزعماء الطائفيين الذين عادة ما يرثون الحكم من آبائهم.  بعد الحرب الأهلية، سيطر قادة الميليشيات السابقون على مختلف الوزارات الحكومية والمؤسسات العامة، ووسعوا شبكات المحسوبية الخاصة بهم إلى أحشاء الدولة. لا تزال الوظائف الحكومية والعقود والموارد الأخرى تخصص حسب الطائفة، وهي عملية تعرف باللغة العربية باسم المحاصصة.

 الرئيس اللبناني العماد ميشال عون (قبل توليه الرئاسة) والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله

بما أن النظام السياسي يقوم على الإجماع، فلا يمكن اتخاذ قرارات دون موافقة الجميع. (الشعار السياسي اللبناني المعتاد هو أنه لا يمكن أن يكون هناك "منتصر ولا مهزوم"). والنتيجة هي جمود دائم، تتخلله أعمال عنف دورية. لا يمكن اتخاذ القرارات في الساحة السياسية، ولذلك تُتخذ في الشوارع أحياناً.  وهذا يشجع الأحزاب والفصائل -لا سيما قادة الطوائف الرئيسية الثلاث: السنة والشيعة والموارنة- على الاستعانة برعاة خارجيين من أجل هزيمة منافسيهم، وهي ديناميكية أبقت لبنان ضعيفاً ومعتمداً على القوى الخارجية. تنافست كل من سوريا وإيران والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وفرنسا على النفوذ في لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990. وقد قاومت هذه الدول أي تغيير واسع النطاق للنظام من شأنه أن يقلل من نفوذها، رغم أنها تنفي ذلك. أما النخب اللبنانية فقد استثمرت كثيراً في النظام بما لا يسمح لها بتغييره.

نظام مدمر

إذا كانت هناك لحظة لقلب نظام لبنان الطائفي وحكامه الراسخين، فهذه هي اللحظة. عندما اتضح حجم الدمار ودرجة الإهمال الرسمي الذي سمح بحدوث الانفجار، تجمع عشرات الآلاف في ساحة الشهداء بوسط بيروت في 8 أغسطس/آب، وهم يهتفون ويلتقطون صور السيلفي مع دمى من الورق المقوى للرئيس اللبناني، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، معلقين على حبل المشنقة.

مجموعة من اللبنانيين، بأعمار ومناطق مختلفة، احتشدوا بعلم البلاد في محيط المرفأ، مطالبين بضرورة  

قد يؤدي الغضب من الانفجار إلى إحياء انتفاضة شعبية بدأت في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، بعد أن أعلنت الحكومة اللبنانية عن سلسلة من إجراءات التقشف. لعدم وجود زعيم قوي واحد أو أسرة حاكمة لتركيز غضبهم عليها، تبنى المحتجون اللبنانيون شعار "كلن يعني كلن"، كان هؤلاء العشرات من قادة حقبة الحرب الأهلية غير مستعدين للتنحي جانباً وتسليم السلطة لجيل جديد. وبدلاً من ذلك، فإنهم يركزون السلطة بين المقربين منهم، وينهبون موارد البلاد، ويمررون مقاعد البرلمان لأبنائهم، ويستمرون في إحياء الهوية الطائفية. وعندما يفشلون في تنفيذ إصلاحات أو توفير الخدمات الحكومية الأساسية، يلقي هؤلاء القادة الطائفيون باللوم على الجهات الفاعلة الخارجية والقوى الإقليمية، ويدعون أنهم أبطال حقيقيون للتغيير أحبطوا بشكل مأساوي على يد نظام فاسد. في هذا النظام الدائري الذي يسمح لكل زعيم وفصيل بإلقاء اللوم على غيره، لا توجد مساءلة، حتى عندما تعاني البلاد من مأساة بحجم انفجار الميناء.

قد تكلف إعادة إعمار المناطق المتضررة من الانفجار ما يصل إلى 15 مليار دولار، ومن المرجح أن يضاعف ذلك الانهيار الاقتصادي، الذي تزامن مع احتجاجات العام الماضي. فقدت الليرة اللبنانية المربوطة بالدولار منذ عام 1997، 80% من قيمتها في السوق السوداء، منذ أكتوبر/تشرين الأول. أدى انهيار العملة، إلى جانب نقص الدولارات، إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقص السلع المستوردة. تكافح الحكومة لسداد ديونها، وفشلت في توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه وجمع القمامة. يبلغ الدين العام في لبنان 92 مليار دولار، أو أكثر من 160% من الناتج المحلي الإجمالي.

الأمل في خطة إنقاذ خارجية ضئيل، فمؤيدو لبنان التقليديون، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي ودول الخليج مثل المملكة العربية السعودية وقطر، يتراجعون عن تقديم المزيد من المساعدات. يطالب الداعمون الأجانب أخيراً القادة اللبنانيين بالبدء في إجراء إصلاحات، من شأنها في النهاية إضعاف قبضتهم على السلطة وتقويض النظام الطائفي؛ تقليص الرواتب العامة المتضخمة ومكافحة الفساد. في مايو/أيار الماضي، طلبت الحكومة اللبنانية قرضاً بقيمة 10 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، لكن المفاوضات توقفت بسبب الصراع الداخلي بين المسؤولين الحكوميين والبنك المركزي في البلاد، بشأن الإصلاحات ومطالب صندوق النقد الدولي بإجراء تدقيق جنائي لحسابات البنك.

 الحكومة اللبنانية

أوضح زعماء لبنان الطائفيون، بمواقفهم المتعنتة، أنهم لا يأبهون إذا انهار الاقتصاد أو انهار البلد، أولويتهم القصوى هي حماية أنفسهم وأتباعهم. فهل هناك بديل للحكم الطائفي؟ على الرغم من أن حركة الاحتجاج التي ظهرت العام الماضي قد بنت تحالفات عابرة للطوائف، إلا أنها تفتقر إلى قيادة، كما أنها بعيدة عن بناء هياكل وتنظيمات تساعدهم على تجاوز التصويت للجماعات القائمة على أساس طائفي، من حزب الله، إلى تيار المستقبل، وهو حزب سني يتزعمه سعد الحريري، رئيس الوزراء الأسبق والابن الآخر لرفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق الذي اغتيل عام 2005، والتيار الوطني الحر، وهو حزب ماروني إلى حد كبير أسسه الرئيس عون، ويقوده حالياً صهره جبران باسيل.

علاوة على ذلك، تتمتع الأحزاب الطائفية بميزة متأصلة على الحركات غير الطائفية الناشئة، لأن النظام السياسي في البلاد يعتمد على إنشاء شبكات زبائنية وتوزيع الموارد، لمواجهة الضعف الحكومي. يعتمد اللبنانيون على زعمائهم الطائفيين وأحزابهم لا للحصول على الوظائف فحسب، بل أيضاً الخدمات الاجتماعية، مثل الرعاية الصحية والتعليم والمساعدات الغذائية. تملأ الأحزاب الفجوة التي خلفتها حكومة مركزية ضعيفة فاسدة وغير فعالة في تقديم الخدمات الأساسية.

عارض العديد من الأحزاب الطائفية القائمة، بما في ذلك حزب الله وحلفاؤه، الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة. أُجريت الانتخابات الأخيرة في مايو/أيار 2018، ومن المفترض أن يعمل البرلمان حتى عام 2022. لكن حتى لو تمكن المحتجون من فرض انتخابات مبكرة، فليس من الواضح أن ذلك سينتج عنه هيئة تشريعية مختلفة عن الهيئة الحالية التي تتكون من 128 عضواً. يتفوق الزعماء والأحزاب الطائفية في استخدام قوانين الانتخابات العتيقة في لبنان لصالحهم. في الانتخابات الأخيرة، ادعى السياسيون أن نظاماً جديداً للتمثيل النسبي -بدلاً من نظام حصول الفائز على كل شيء- سيسمح لمجموعات المجتمع المدني والمستقلين بالتنافس ضد الأحزاب القائمة، لكن الأحزاب الطائفية فازت فعلياً بجميع المقاعد، وكان إقبال الناخبين أقل من 50%.

أوضحت مأساة بيروت -نتيجة عقود من الإهمال المنهجي وانعدام المساءلة- أن حكومة جديدة وانتخابات نيابية وأحزاباً سياسية جديدة لن تكون كافية لإنقاذ لبنان. على اللبنانيين تخليص أنفسهم من الزعماء الطائفيين الفاسدين والأحزاب التي هيمنت على البلاد منذ عقود. وعليهم تدمير نظام تقاسم السلطة الطائفي الذي تحول إلى حبل المشنقة حول أعناقهم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي