"ضياء الروح" عالم نسويّ يدمج البشر والطبيعة في الميتافيزيقيا

2020-08-09

العالم السطحي يخفي حقيقة مغايرة

محمد عبدالهادي*

معرض “ضياء الروح” للفنان المصري أحمد القط يقدم النساء ككائنات مقدسة لا يفْرقن عن معبودات المصريين القدماء، يدمج صورهن مع الطبيعة في إطار شكلي واحد، ليقدم دلالات وترميزات تجعلهن نماذج لجميع الفضائل البشرية المفقودة، من الأمان والصدق والحنان والتضحية.

يتجاوز معرض “ضياء الروح” للفنان أحمد القط، الحضور الجلي للمرأة في لوحاته المعروضة، إلى الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) بنطاقاتها الفضفاضة، ليدمج في لوحاته عناصر الطبيعة مع آثاث المنازل، والقوالب الموسيقية، مخلفا في النهاية جوا وجدانيا لمشاعر ممتدة.

يعبر المعرض، الذي يستضيفه غاليري “آرت هوب” بحي الشيخ زايد بمدينة 6 أكتوبر المتاخمة للقاهرة، ويستمر حتى منتصف أغسطس، عن مفاهيم مغايرة للنساء والعالم الذي يعشن فيه، بتقديمهن بصورة مجردة وخالية من البهجة والزينة داخل إطارات مقفرة عتيقة، بطريقة تحمل قدرا كبيرا من البراءة تعوض نمط الحياة اليومية الجديدة بتسارعها وقسوتها.

تظهر لوحات المعرض العشرين جانبا من دوافع الاتجاه الميتافيزيقي المتمرد على واقع الإنسان، وتركيزه على تناقضات العقل والجسد والفضاء والزمن، فدوافع اللاشعور وإسقاطاتها بما تحمله من براءة وصدق حاضرة بقوة، تتكامل مع مناظرالفراشات والزهور والدمى وأشياء بسيطة متعلقة بالطفولة وجو الأسرة المفقود.

 

الفنان أحمد القط يعتمد على البورتريه لتوصيل أفكاره فالبطولة منفردة للمرأة فقط وتحمل كل لوحة استقلالية لكنها مرتبطة عضويا بغيرها من اللوحات.

يخلق أحمد القط، مزجا بين الواقع والخيال شبيها بعالم الأحلام، فنساؤه وإن تشابهت ملامحهن تحمل كل منهن قدرا مختلفا من الجمال يبرزه عالم الأعين الساحر الذي يشي بالأحباء، ويفضح الخائفين والقلقين، ويخفف بدموعه الضئيلة آلام الحزانى والمكلومين، يقرنه بعالم الموسيقى بصور مموهة لعازفي آلات نفخ خشبية ووترية يؤدون مقطوعات في هارموني شبيهة بضبط المرأة إيقاع الحياة في أسرتها.

نساء الأحلام

لوحات تزخر بطاقات كامنة للنساء

تزخر اللوحات بطاقات كامنة للنساء يحلمن بتفجيرها وآمال مفقودة في الماضي والحاضر، براقصات باليه يتحركن في صورة ظلية كالأشباح، أو طيور محلقة في فضاء واسع أو زهور متنوعة الألوان تنتظر بشوق موعد قطفها، وكلها أحلام تداعب الأنثى في نطاقات زمنية مختلفة من عمرها فهي تحلم بالحرية والأمن وإثبات الذات.

يعتمد الفنان على البورتريه لتوصيل أفكاره، فالبطولة منفردة للمرأة فقط، وتحمل كل لوحة استقلالية لكنها مرتبطة عضويا بغيرها من اللوحات التي حال عرضها بوتيرة متسارعة ومتتالية تتحول إلى مقطع فيديو صغير، ويمزج أدوار المرأة الحياتية في العناية بأسرتها ومنزلها مع توصيفها كمصدر جمالي للكون تنيره بابتساماتها وتظلمه في أوقات الحزن والكآبة.

تحمل الألوان الكثير من الدلالات والمعاني الخاصة، فالأزرق كان حاضرا بقوة معبرا عن معنيين متناقضين، فكل النساء يجمعن في أحشائهن قدرا من الضعف والقوة والطيبة والحيلة والمكر، ورغم رمزية “الزُرقة” للنقاء كلون السماء الصافية لكنها أيضا تجسد أمواج البحر الهائجة التي تعصف بمن يقف في طريقها.

يتكرر الأمر ذاته مع أوراق الذهب والفضة التي طعم بها الكثير من لوحاته دون أن ترتديها أي من بطلاتها، وتعطي دلالات معنوية بأن النساء قوارير غالية الثمن يجب الحفاظ عليها، لكنها لا تخلو من تأكيد على عشقهن لعالمهن الخاص من التزين واقتناء المصوغات والمجوهرات مهما بلغن من مناصب، بصرف النظر عن المستوى الاقتصادي الذي يعشن فيه.

يستغل الفنان ضربات الفرشاة لمنح خطوطه ملمسا خشنا يتماشى مع الكم الكبير من الورود التي جعلها بديلا لملابس النساء في بعض لوحاته لمضاهاة حقيقة الزهور في كونها مصدر ألم وجمال في الوقت ذاته، بأشواكها الدقيقة التي لا تسلم الأيادي من وخزها، وتتكامل مع نقوش تشبه أقمشة الخيامية الدارجة في المناسبات الدينية وملابس المزارعات التقليدية، في توليفة تعتبر أن جمال المرأة في كينونتها وليس ملابسها.

تظهر اللوحات تأثر أحمد القط بالحضارة الفرعونية، بدمج “باسيت” الإله متعددة المعاني عند المصريين القدماء التي جسدت لهم في الأسر القديمة الحاكمة معاني الحب والخصوبة والحنان وحماية المرأة الحامل، قبل أن تضيف إليها الأسر الحديثة معاني أكثر دنيوية كأيوقنة للحياة والمرح وتغير شكلها من القطة التقليدية إلى رأس خرة سوداء مدموجة بجسد امرأة ترتدي ملابس غالية الثمن.

يتكرر الأمر ذاته مع دمج الأبقار الفرعونية التي كانت أكثر الحيوانات التي عبر عنها المصريون القدماء بأشكال ومآرب مختلفة، فجعلوها الإله “بات” رمز الكون وجوهر الروح قبل أن يتم اعتبارها الإله “حتحور” مفتاح الحياة ووالدة الفرعون والموجودة قبل خلق العالم، وفي ما بعد أصبحت أيقونة للحب والموسيقى.

يقول الفنان أحمد القط في حديث صحفي ، إن النساء في الفن يعادلن الحياة في الحقيقة، فهن الزوجات والأمهات والأخوات، ورموز للحنان والعطف والمودة والحب، ويسعى في معارضه للبحث عن تلك المعاني في عيون ووجوه الشخوص التي يرسمها.

سبق لصاحب المعرض توظيف ثيمات المرأة والحيوان في أعماله التي  تدور في فلك “البورتريه” أيضا ويستقي ملامحها من أشخاص يتعامل معهم يوميا، مع التركيز على الحالتين التعبيرية والانطباعية لكل شخص واختيار الخامات المناسبة لها من الأكريليك والفحم والوسائط المتعددة.

 يتخلص الفنان الشاب من ميراث متكرر لفناني التشكيل من الرجال في تعاطيهم مع القضايا النسوية، فصورة المرأة الكلاسيكية كانت دائما تقدم ككائن سلبي لا يهمه سوى جماله الحسي بمشاهد نساء مستلقيات على أسرة في عري يتفقدن مراكز الفتنة بأجسادهن، أو منغمسات في أداء مهام منزلية بما يتماشى مع طبيعة الرجال الذين تغلب عليهم نزعتهم الذكورية في التعاطي مع عالم المرأة.

نظرة سارحة

لوحات تظهر تأثر أحمد القط بالحضارة الفرعونية

صحيح تتضمن بعض اللوحات نفس النظرة السارحة الهائمة المعتادة للنساء في لوحات التشكيل، لكنه يمتاز بمنحهن قدرا كبيرا من القوة بالملامح الجادة المقتضبة التي يجسدنها، وتحدي العيون التي تشعر من يشاهد اللوحات بأنها تنظر إليه في عينيه مباشرة دون خجل، وربما بنظرة استهجان على محاولته التدقيق في تفاصيل جمالهن.

يوضح القط أن الإنسان محور اهتمامه والدمج مع الحيوانات كالقطط والكلاب والأبقار والرموز الفرعونية للآلهة هدفه في التعبير عن معاني بشرية خالصة، ما بين الأُلفة والوفاء والسكون، وحركة الخير والشر التي تتوالد مع أفكارنا وأفعالنا.

يسعى الفنان المنغمس في مذهبه الفلسفي الفني، الذي يمكن وصفه بالمندثر باعتباره مرحلة فنية سابقة للسريالية، في التأكيد على أن العالم السطحي يخفي حقيقة مغايرة لما في داخل الإنسان، أو رسم ما وراء المادة المحسوسة التي تدفعه أحيانا، لإضافة بعض الأشكال التي تبدو تافهة بطريقة متعمدة اتساقا مع عالم الأحلام العقلية الذي يحاول تقديمه.

ولا يخلو أسلوب اللوحات من اتجاهات جديدة يتزعمها قطاع من التشكيليين يحاولون التحرر من أسلوب الأسلاف في تقديم المرأة كأيقونة جمالية مجردة من أي دلالات إنسانية، وتوسيع نطاقات التعبير عنها لعوالمها الخاصة بنفسيتها وطموحاتها وآلامها والجنوح نحو فهم عميق لمشكلاتها التي لا تنعزل عن الهموم المجتمعية بشكل عام.

يمثل “ضياء الروح”، المعرض الشخصي السادس لأحمد القط، الذي يحافظ فيه على تخيلاته الخاصة لعالم النساء، لا يستطيع الفكاك من أن المرأة كائن معطاء دائما أو القبول بالتغيرات التي عصفت بقطاع عريض من النساء ودفعتهن للتخلي عن الكثير من صبغتهن القديمة، يبتعد عن مثالية الجمال في رسم الوجوه حتى أن غالبية لوحاتها تبتر الجزء العلوي من رأس المرأة، فالبنسبة له جمالها داخلي وليس خارجيا ويتجاوز تسليعها أو تقديمها كوسيلة للدعاية لمنتج تجاري أو نموذج للإغواء والفتنة.

 

  • صحافي مصري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي