بيت السيدة ملعقة

2020-07-30

هدى حمد*

في كل واحد منا بيت، لا يمكن تجاوزه بيسر، حيث نبتت الألفة لأول مرّة، وتشكلت الصور وفتنة الخيالات. ننغلقُ على هذا البيت الذي يسكن مخيلتنا لنحميه بداخلنا، ونستعيده بصورة مفرطة في انتكاساتنا اللانهائية، ربما ليس كما عشنا فيه واقعيًّا، ولكن بقدر ما نرغب أن يكون بيتًا مثاليًّا وآسرًا، فالعالم الواقعي كما يقول غاستون باشلار: «يمّحي دفعة واحدة، حينما يسعى المرء إلى العيش في بيت الذكرى».

كان لنا في طفولتنا الأولى بيت، وعندما انتقلنا منه، صرنا نسميه «البيت القديم». لم تكن في «مرتفعات الخضراء» عمالة آسيوية عندما كان جدي يافعًا، كان بمقدوره آنذاك حمل الطابوق والإسمنت بصلابة فائقة، رغم ما قد يبدو الآن من هزاله وضموره وعظامه البارزة تحت لحمه اللين. بقينا نكبر في البيت القديم، دون ظنون مبالغ فيها بأننا سنغادره ذات نهار. لم يكن بحوزتنا أنا ووالديّ وأختي وأخي الأصغر مني، أكثر من غرفة واحدة من البيت، إلا أنّها كانت فسيحة بما لا يصدق، كلما استدعيتها في مخيلتي. أستعيد الآن، نوافذها الخشبية المدهونة باللون الأخضر، والمطعمة بأشكال هندسية لافتة، ونسمة الهواء الباردة تتخلل أجسادنا الصغيرة، والباب الذي يفضي إلى «الليوان» الممتد بين غرف البيت كشريان متدفق، والأشياء القليلة التي في الغرفة والكافية للَهْوِنا الأول.

في غرفة والديّ، لا شيء يستدعي الاهتمام أكثر من الراديو الذي أهداه أبي لأمّي. كانت أمّي تفتحه على مدار اليوم، فتنبعث منه أصوات عديدة وموسيقا، لكنها تغيب عنا في أوقات أخرى في لجة التشويش.

حياتنا تمضي في الحوش الداخلي، نشرب الشاي والقهوة ونتبادل الأحاديث والطعام، ويدخل ضجيج جاراتنا إلى حوشنا بعد صلاة العصر، يجلسن متكئات على وسائد بيض منقشة بألوان زاهية، أو متكئات على شجرة البيذام التي توسطت حوشنا منذ سنوات طويلة، تنمو بينهن الأحاديث وهن «يُنجّمْن»(1) الكميم. حركة أصابعهن متناغمة تمامًا مع ضحكاتهن وإيماءة رؤوسهن وشهوة الحكي المتدافعة. وما إن يؤذن جدي في المصلى المجاور لبيتنا، ينهين أعمال الحياكة وتحمل كل منهن «كمتها» وخيوطها وإبرها في حقيبة صغيرة، ويخرجن متعجلات كما دخلن.

ننام في فصل الشتاء في الغرف، وفي الصيف نتكبد مشقة نقل فراشنا إلى السطح. نصعد نحن وأهلنا والعجائز، علينا دومًا أن نمسك بأيدي العجائز جيدًا، لنطمئن لموطئ أقدامهن المرتجفة، إن كانت في مكان آمن أم لا. هنالك على الدوام «مبولة» للصغار، مصنوعة من علب «النيدو»، تفرغُ محتوياتها كل صباح.

أنظرُ للنجوم الخلابة فوقي، أستخدمها لأرقي الطفولي، لكنها لا تُحصى. لا أعرف من أين أبدأ وأين أنتهي. عندما نجدُ فراشنا مبللًا في الصباح، تقول لنا الأمهات: إنّه «الكوس». أعرف الآن أنّها الرياح الصيفية التي تهبط على بحر العرب، امتدادًا للرياح الموسمية في شمال المحيط الهندي، ولكني آنذاك لم أكن أعرف إلا أنّ فراشنا يكتنز رطوبة عالية. في الريف، لا يقتصر البيت على البيت الذي نشأت فيه، كل بيت يغدو بيتك بالضرورة، كل الجارات يصبحن أمهات لك في غياب أمّك أو مرضها.

عندما تذهب أمّي للمستشفى يصبح بيتنا بيتهن. يدخلن المطبخ، يفتشن الأغراض، يطهون الطعام، يتأكدن من حلب الأبقار، وإطعام الماشية، يفعلن الأمر بإخلاص قلّ نظيره. وبالتأكيد سيأتي اليوم الذي يذهبن هن أيضًا إلى المستشفى، وستفعل أمّي الأمر ذاته معهن.

نحفظ بيوت جيراننا عن ظهر قلب، ليس لأنّها تشبه بيتنا وحسب، وإنّما لأننا لا نكف عن غزوها من حين لآخر. نعرف مكان السلالم المؤدية للسطح، وأماكن تخزين المؤونة، وكل شيء جديد يمكن أن يصل منازلهم. مثل البيت الذي يلي بيتنا. إذ يُحضر الزوج لزوجته من دبي فستقًا وجوزًا لم نَذُقْ مثل لذته من قبل، وكانت تقاسمنا هداياه من حين لآخر.

أحضر جارنا المقاول تلفازًا لأول مرّة، لا أتذكر التفاصيل إلا صورًا متقطعة ومبتورة ومشوشة، كنتُ صغيرة جدًّا وأمّي تمسكُ يدي وتمضي بي إلى بيت جارنا صاحب التلفاز. لكنها حدثتني عمّا فات ذاكرتي، فذهابهم إلى البيت الذي يتوسطه تلفاز بات أمرًا ينطوي على فضول آسر، لم يختبروا أمرًا مشابهًا من قبل في بيوتهم. شاهدوا عنترة بن شداد لأول مرّة في بيت جارنا، وتعجبوا من الكائنات المحجوزة في صندوق صغير. الفرجة كانت بِكرًا في حارتنا، وليس بحوزة الناس تصورات كافية حول ما يحدث، كونه لا يعدو أن يكون محض تمثيل!

فتن الجيران بصوت سميرة توفيق ولا تزال أصداء إعجابهم ترنُّ في رأسي كلما ذكروا القصة أمامنا. شغفٌ فاتنٌ ملأ أجواء القرية التي لم تكن تستأنس إلا بسهرها وحكاياتها الليلية. لا أتذكر تلفاز جارنا إلا في مشاهد مشوشة، لكني أتذكر تلفاز أبي بوضوح، عندما أحضر من أحد أسفاره تلفازًا أحمر صغيرًا للغاية، ظهرت فيه الصور بالأبيض والأسود. كانت لحظة فاتنة وفارقة في حياتنا كلنا. شعرتُ لحظتها أنه بإمكان كائنات جديدة أن تدخل نسيج بيتنا دون استئذان، يمكننا أن نتقاطع مع أحلامها وقصصها، أن نتعاطف معها ونكرهها في آن.

لدى والاس ستيفنز قصيدة عن الوحيدين يقول فيها: «البيت كان صامتًا، والعالم كان هادئًا»، هكذا أستعيد بيتنا القديم المتخيل هادئًا، وأستعيد التلفاز الأحمر الذي تضع أمّي منديلًا مطرزًا فوقه صامتًا غالب الوقت ريثما يشتغل المولد.  شاهدتُ بالأبيض والأسود لأول مرّة في حياتي مسلسلًا كرتونيًّا، «السيدة ملعقة»، سيدة عجوز، تحمل ملعقة ذهبية على ظهرها، تصغر وتصغر في ظروف خاصة، إلا أنّ الملعقة تبقى بحجمها الطبيعي، ثقيلة فوق ظهرها، ودون أسباب واضحة تعود السيدة ملعقة لحجمها الطبيعي في نهاية الحلقة. عندما تصغر يصبح بيتها وتفاصيله أكبر من المعتاد حتى بالنسبة لنا نحن، ويصبح الجلوس على كرسي في بيتها أمرًا بالغ الصعوبة. تفكر «السيدة ملعقة» في مطبخها وحقلها وأعمالها غير المنجزة، وعلى الدوام تجد حلولًا تخفف مشقة الوصول إلى الأشياء.

عقلي الصغير كان ينظر إليها ككائن مبهم، ثم صارت بيننا ألفة وانتظارات يومية، وسؤال يضجر أمّي عن موعد قدوم السيدة ملعقة، «ولأن العقل يحب المجهول» كما تقول مارغريت أتوود، فقد حصل في أكثر مساءتي الطفولية صخبًا أن دعوتها لأن تقف على راحة يدي، وأن تتجول في بيتنا القديم لتصبح فردًا منه.

 

بيتنا منخفض ككل البيوت في «مرتفعات الخضراء». بنى جارُنا -صاحب التلفاز الأول- بيتًا فريدًا من نوعه. كنا لأول مرّة نرى بيتًا من طابقين. لقد تحول إلى علامة، لدرجة أنّ أهلنا صاروا يصِفُون كل شيء انطلاقًا من ذلك البيت العجيب، «خلف البيت بو طابقين» أو «قرب البيت بو طابقين»، كان البيت بالنسبة لنا شاسعًا وكبيرًا، نوافذه زجاجية في وقت كانت نوافذنا خشبية. أكثر ما أثار دهشتي، الستائر التي تتطاير بفعل الهواء، لم يكن في بيتنا القديم ستائر. تَبدَّتْ لي كخفقانٍ لا نهائي لطائر مجهول. المرأة الطيبة التي تقطن الطابق السفلي، تمدُّ يدها على الدوام لِتُناوِلَنا شيئًا، الفاكهةَ أو أكياس «المينو»، وكنا نقبل سخاءها بعرفان كبير.

غير أنّ المشاهدة كانت أمرًا شاقًّا ومعقدًا، فعدا ساعات المشاهدة التي يتحكم بها مولد يعمل بالديزل لساعات محددة من اليوم، ينبغي التأكد أيضًا من تثبيت «الإريل» في كل مرّة، وإن حصل وتحرك «الإريل» بنسمة هواء طائشة، فذلك على الأرجح يجلب المزيد من التشويش. كنتُ في سن ما قبل المدرسة، في وقت تتشكل فيه مخيلتي وانفتاحي على الحكايات؛ لذا لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز هذه المرحلة، أعني الْتِقافَ عوالم جديدة، الْتِقاط الصور والأفكار التي تجعل بيتنا أكثر اتساعًا مما يبدو في غرفتنا الواحدة، لذا كان التلفاز والراديو معًا بيتين مشتبكين ببيتنا الأول.

لدى الشاعر الأميركي تشارلز سيميك على سبيل المثال بيت يبحث عنه، حلم متكرر عن الشارع الذي ولد فيه، يرى الوقت دائمًا ليلًا، يعبر بنايات أليفة بشكل غامض محاولًا أن يجد بيته، ولكن ولسبب ما لا يعثر عليه، يعيد اقتفاء خطواته، البيوت كلها هناك، إلا البيت الذي يقصده. هكذا بصورة دؤوبة، نحمي البيت القديم بأن نستعيده. البيت الحلمي الذي تحدث عنه باشلار؛ لأن من ليس لديهم بيت حُلمي، «يعتبرون البيت حيوانًا متوحشًا حقيقيًّا».

 

  • كاتبة عمانية






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي