"الباعة" مسرحية تعرّي واقع العمال في مجتمع رأسمالي

2020-05-26

حاضر مفلس ومستقبل ملتبسباريس - “الباعة” هي الجزء الأخير من ثلاثية بدأها جويل بوميرا بمسرحية “إلى العالم” وأردفها بمسرحية “بيد واحدة”، وفيها يواصل الكشف عن مفارقات المجتمع في نظرته إلى العمل، في ظل نظام رأسمالي، دون أن تدخل أعماله في ما يعرف بالمسرح السياسيّ.

باريس- “حين يكون لدينا الظلام والنور في الوقت نفسه، يكون لدينا أيضا ما يتعذّر شرحه. الكلمة المفتاح في مسرحياتي هي ربّما”، ذلك ما قاله بيكيت في حديث عام 1961، وذلك ما يقترحه أيضا جويل بوميرا، على طريقته، من خلال رسم عوالم تحت أضواء غسقية خافتة، فهو يبحث عن الواقع لا عن الحقيقة، كما يقول، واقع ينحته بكل تعقّده، معرّيا صفحته المتآكلة كي ينفذ إلى أعماق الإنسان، حيث تصخب أصداء الضجيج الهادر خارجه، وتتصارع الأشباح والأحلام، ووقائع النهار وأحداثه.

فمسرحه ينهل من ماء الحياة اليومية، ويلتقط الأحجار التي تثقل الحاضر. يتحدث عن العلاقات العائلية، وعراقيل الماضي، والعلاقة بالعمل، ومسؤولية أفعالنا، وعدم اطمئنان الكائن، وعسر الوجود. كل ذلك بكلمات بسيطة تسرد حكايات عادية ومعقّدة.

في هذه المسرحية يواصل جويل بوميرا الحفر في تجاويف عالم الشغل وما يعانيه العامل في بلد جعل المساواة مجرد شعار يعلق على أبواب المؤسسات، فيما الواقع تفاوت اجتماعي مريع، وأوضاع مهنية هشة، صار فيها العامل أشبه بمنديل كلينكس.

وتتحدّث المسرحية عن امرأة عاطلة، يعوزها ما يضمن قوتها ويسدّد مصاريفها، وعن صديقتها التي أنهكتها الآلام، وعن معمل كيميائي أغلق عقب انفجار، وعن الخوف من البطالة، وعن أناس لا يستطيعون تصوّر هويتهم ونشاطهم خارج الهوية التي صنعوها بالعمل.

على الخشبة طاولة وكرسيّان يرجع عهدها إلى خمسينات القرن الماضي، وتلفاز قديم وكونتوار لا لون له، وامرأتان تحت ضوء شحيح. يُسمع صوت خارج المشهد لراوية، سوف تظهر بدورها في المسرحية، تقول “الصوت الذي تسمعونه الآن، هو صوتي.. صوتي أنا التي تشاهدونها هنا، والتي تقف الآن. أنا التي سوف تحدثكم.. كنت صديقة لها.. صديقة هذه المرأة التي ترونها بجانبي”.

جويل بوميرا يواصل الحفر في تجاويف عالم الشغل وما يعانيه العامل في بلد جعل المساواة مجرد شعار

وتشرع في سرد حكاية صديقتها التي تعاني آلاما في ظهرها بعد سنوات طويلة من العمل في مصنع أورسيلور لتصنيع الأسلحة، تعرّض لانفجار فأغلق أبوابه واستغنى عن عملته، فألفت صديقتها نفسها عاطلة كبقية العمال، الذين فقدوا مع العمل هوياتهم، وموقعهم داخل المجتمع، فالعمل كان بالنسبة إليهم كل شيء. تقول البطلة “هل العمل هو ما يشدّنا إلى الحياة بقوة، ويربط بعضنا ببعض؟”.

حول حكاية بسيطة، يتنقل ثمانية ممثلين وممثلات بحثا عن رابط متين، عن إنسانيتهم وهي تتغيّر باستمرار وتتشظّى وتتفتّت، فيغدون مثل أشباح تروي حكاياتها، كشهود عن حاضر مفلس، أو ضمائر مستقبل ملتبس.

فالمسرحية تتألّف من مشاهد قصيرة متتالية يبدو فيها بعض الشخصيات كظلال صينية، يعلقون ببضع كلمات تكاد لا تُسمع على ما تحكيه الراوية بصوت رتيب مرهق عن امرأة ألقت بطفلها من أعلى البلكونة ونجا من الموت بأعجوبة. ولكنها تعيد الكرّة فيلقى الطفل حتفه في المحاولة الثانية. وأمام هذه الحادثة التي بدت كأنها تضحية أمٍّ فقدت بفقدان الشغل توازنها وعلة وجودها، تتراجع إدارة المصنع عن مشروع الغلق.

هي حكاية متخيلة تقول إن البشر هم باعة حيواتهم، ولكنها تعكس صورة عن عالم العمل، حيث المهمات المتكرّرة حدّ الملل، الشاقة حدّ تقوّس الظهور وتصدّع العظام، المحبطة من جهة اختلال الموازين بين الجهد المبذول والمقابل المادي الهزيل الذي لا يلبّي الاحتياجات ما يولّد في نفوس العمال مشاكل نفسية لا تحصى عددا، حتى أن البطلة تزهد في الحياة وترى أن الموتى فقط يحظون بالحياة، أما الأحياء مثلها فلا حياة لهم.

يصوّر بوميرا تلك المعاناة الجسدية، والنفسية أيضا، فمن جرائر التعب الجسدي أن العمال يفقدون ذواتهم في وجه من الوجوه، وينصهرون مع الآلات التي يشغّلونها ليصبحوا هم أيضا آلات تؤدّي حركات معلومة لا تفتأ تتكرّر، ما يفقدهم الإحساس بتفاهة ما يصنعون، وبأنهم إنما يبيعون حياتهم مقابل أجور لا تكفي لتأمين أجساد تكاد تنفصل عنهم.

 

وبوميرا لا يعطي دروسا، بل يتصوّر وضعيات تكشف عن المفارقات والتناقضات الكامنة في مختلف محطات الحياة، والتمثلات التي نُلبسها رؤيتَنا للأشياء، وتمازج الخيال بالواقع، في الأمس والحاضر. وحديثه عن الموت يعرض كشرط من شروط بقاء الكائن الحي، فلا استرحامَ هنا ولا استدرار شفقة.

بهذه الثلاثية، يؤكد بوميرا، مؤلفا ومخرجا، انشغاله بواقع مجتمعه، وقضاياه الراهنة كالعمل والسلطة والمال والهيمنة، ويستمدّ من الحكاية سرديتها لينتقد انحراف الرأسمالية بأسلوب فني راقٍ. وقد ساهم الديكور بخطوطه الواضحة وعتمة أضوائه في جعلِ حضور الممثلين طبيعيا ولاواقعيا في الوقت ذاته، وخلقِ عالمٍ يجمع بين الغريب والمألوف.

هو مسرح يصل العالم المادي بالعالم الذهني، الأحياء بالأموات، والسياسة بالاقتصاد والواقع الاجتماعي، ويلصق شظايا الوجود الإنساني بعضها ببعض، ليجمّع ما فصَله العقل الغربي التحليلي، ويخلق وحدة على مدار عرض يرى فيها المتفرّج صورة عن مجتمع، يعيش مفارقات ليس أقلها الإحساس بالتهميش والخصاصة في بلد غنيّ.

* كاتب تونسي

 








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي