كيف نخرج من هذا الثقب الأسود؟

2020-04-18

كيف نضمن الوصول الآمن إلى عالم مستقر متضامن؟ وهل سيحدث هذا بمعزل عن اختيارات الأطراف الأخرى من العالم وخصوصياتها وتعقيداتها؟

صدرت أخيراً عن دار "توبقال" للنشر بالمغرب ترجمة لكتاب "الخروج من الثقب الأسود: الإنسية القانونية كبوصلة"، للأكاديمية الفرنسية ميراي ديلماس مارتي، قام بها الباحث المغربي عزالدين الخطابي، تحت عنوان "إنسية متعددة"، حاملاً عبرها مضامين هذا الكتاب الفلسفي إلى القارئ العربي بأسلوب رشيق ممتع.

ترى مارتي، كغيرها من الإنسيين المنحازين لسمو فكرة القيم والمبادئ الكونية، أنّ العالم بات غارقاً حقاً في ثقب أسود، تعصف فيه الرياح بالأحلام العامة للبشر، وتحاصره أخطار الخوف وحيرة الحاضر، وتحلق فوق آفاق سمائه غيومُ المستقبل القلق. ومع السعي المتواصل إلى الخروج من هذه الورطة الوجودية، يطرح العالم مزيداً من الأسئلة الشاحبة حول كيفية الخلاص، وطبيعة تلك البوصلة العظيمة التي قد تقوده اتجاهاتها إلى ضفاف النور والنظام والقانون. فهل يتعلق الأمر ببوصلة قانونية صرفة؟ إذا كان الأمر كذلك، فأي نوع من القانون سيفي بالغرض؟ وهل يكفي تمركُز القواعد القانونية في جهات بعينها كي يستقيم التوازن؟ وهل تصحّ التمثّلات العامة لمفهوم الإنسية في قلب العالم «المتحضّر» كي نضمن الوصول الآمن إلى عالم مستقر متضامن؟ ثم هل سيحدث كل هذا بمعزل عن اختيارات الأطراف الأخرى من العالم، وخصوصياتها وتعقيداتها، وبمعزل كذلك عن الرياح الأخرى الآتية من معطيات البيئة والاقتصاد والديناميات الديموغرافية والثقافية المتسارعة المتباينة؟

تقول مارتي إن الإنسيّة، في مفهومها العام، تبدأ من الأسطورة، وتنتقل بعد ذلك إلى اليوتوبيا، ومن اليوتوبيا إلى حكايات الاستباق المبنية على عوالم المُتَخَيَّل والقادم، وبين كل هذه التحولات السياقية العميقة تبرز تعقيدات كل مرحلة على حدة، لكن الخيط الجامع بين كل هذه العناصر يبقى هو السعي الصادق نحو الخلاص العام عند مفترق طرق العوالم، هناك حيث تصبح الحاجة ملحة أكثر لابتكار بوصلة بحجم الإنسية القانونية كي يتجسد هذا الخلاص واقعاً، لا خيالاً فقط.

الكونية في حقوق الإنسان، كما أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ليست بعيدة عن الطابع الإشكالي، فهي بشكل من الأشكال تعكس رؤية الأطراف المتحكمة التي صاغت محاورها وتفاصيلها العامة والخاصة. البلدان الأوروبية، مثلاً، استعملت هذه الكونية حجة كي تمرر رؤيتها الوطنية، وتفرضها بعد ذلك على المستعمرات، وهو نفسه ما فعلته الولايات المتحدة عبر تدخلاتها المستمرة في شؤون البلدان الأخرى، باسم كونية حقوق الإنسان، لكن هذا التوظيف السياسي السيئ، على ما فيه من تجاوزات، لا ينفي بأي حال من الأحوال الحاجة الماسة المستمرة، بل المتزايدة، لتعميم هذا المبدأ الكوني لحقوق الإنسان، وتكريسه في العالم القوي والضعيف، لعله بذلك يخفف شيئاً ما من حدة هذا الاحتقان والنزوع إلى الشر والشعور المُربِك بالخطر الذي بات اليوم يجتاح كل أروقة عالمنا المعيش في سياقات مختلفة.

لقد شكلت العودة إلى النصوص الرومانية القديمة محور العبور إلى الإنسية القانونية كأسطورة، فعصر النهضة الأوروبي شجع كثيراً على هذه العودة القرائية إلى القانون الروماني، إنها عودة مشوبة بالتناقضات، بين قانون روماني مبني على الفكر العقلاني من جهة، وبين عقل إنساني طامح إلى الكونية الشاسعة من جهة أخرى. هذه العودة النموذجية إلى المربع الروماني الأول، حيث تولد الأسطورة، لم تحدث أثراً كبيراً على مستوى الواقع، لكنها في الوقت نفسه طبَعَت على الدوام صفحات الفكر القانوني الغربي، لا سيما القانون الدولي الذي تهيمن عليه الرؤية الغربية بشكل واضح. ولعل أكبر مشكل يواجه هذا النوع من الإنسية القانونية، كما يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فيلاي، هو افتقار المتعاملين معها إلى الحس التاريخي، وقيامهم بنزع القانون الروماني من سياقاته التاريخية، والحلم بقانون روماني ثابت كوني لا يتغير؛ إنها فرضية قائمة على مبادئ العقل اللازمني.

الأساطير تموت عادة، وتولد بعدها اليوتوبيات، تتساءل صاحبة الكتاب لماذا؟ ثم تقف عند جواب السوسيولوجي الفرنسي الشهير ريمون أرون الذي يرى أن الأسطورة تموت في الغالب بعد فقدانها لمصداقيتها. إنها تموت، لكنه ليس موتاً نهائياً على الأرجح، فاستخدام الأساطير من جديد لغايات الشرعية التاريخية يمكن له أن يأخذ صورتين تعيدان حضوره في هيئة مختلفة: الصورة الأولى استعادية تهدف إلى تأسيس نظام تقليدي فوق ماضٍ بعيد؛ أما الصورة الأخرى فتأتي استشرافية كي تجعل هذا الماضي مدخلاً لمستقبل يشرع في الارتسام.

تتحدث مارتي أيضاً عما سمته «الحكايات»؛ إنها ببساطة حكايات الاستباق التي تقدم سيناريوهات من الواقع ترسم مستقبل العالم، وتقول باختصار: إن للإنسانية مصيراً مشتركاً. هي حكايات لا تقترح يوتوبيا، لأنها تعكس وقائع ملاحظة سلفاً في العالم الملموس، وهي كذلك لا تقترح أسطورة جديدة تفترض نسقاً ما للتفكير في شؤون العالم. وقد تكون المؤسسات السياسية والاقتصادية ذات البعد العالمي، وكل نقط الجمع والالتقاء، عناصر حقيقية من شأنها أن تعكس شيئاً من حالة هذا الاستباق الإنساني، فالأرض مثلاً هي أم لكل البشر، لذا فإن التغيرات المناخية تولّد لنا حكايات كارثية تصيب كل البشر بالضرورة. وفي هذا الاتجاه، تتطرق مارتي أيضاً إلى الإمبراطورية العالمية، بصفتها فكرة لحكاية من حكايات الاستباق، والشيء نفسه يُقال عن البرنامج الاقتصادي (كل السوق) والبرنامج الرقمي (الكل رقمي)، هذا العالم إذن هو حكاية تروي عن مغامرة العالمية التي يخوضها الإنسان بشغف وتحدٍّ، مغامرة لا نهائية تجمع بشراً مختلفين، لكن أيضاً مترابطين متضامنين.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي