مارسيل بروست.. وتاريخ الحَجْرِ الصِحي

2020-03-15

عبدالدائم السلامي

اختار مارسيل بروست أن يعيش في عزلةٍ لمدة ثماني سنوات قبل وفاته عصر يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1922 في شقتِه الواقعة في نهج هاملين رقم 44 من الحي الثامن في باريس، فلا يخرج منها إلا للضرورة، ولا يلتقي فيها إلا بقلة قليلة من أصدقائه، إضافة إلى مُعينتِه المنزلية سيليست ألباريه. ولئن رد بعضُ كتاب سيرته تلك العزلة إلى وعيِه باقتراب وفاته، ومن ثمة حرصه على البحث عن أكثر ما يستطيعه من زمنٍ، ليستطيع قول ما يتمنى قوله في روايته «البحث عن الزمن المفقود»، فإن آخرين منهم ذهبوا في تأويل أسباب تلك العزلة إلى القول، إن بروست قد فرض على نفسه حَجْرًا صحيا لخوفه من إصابته بفيروسات قد تزيد من تهيج التهابه الرئوي الحاد، الذي أدى إلى وفاته، وذلك بفعل تأثره بأعمال والده أدريان بروست، المراقب العام للخدمات الصحية في باريس، الذي طور مفهوم الحَجْرِ الصحي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واقترحه سبيلاً لحماية الباريسيين من بوادر عودة الأمراض المعدية، كالحُمى الصفراء والطاعون، التي بدأت تظهر في أوروبا، من جهة البلقان، وفي الشرق الأقصى.

جاء في مقال نشرته «فرانس كولتير» بعنوان «عندما ابتكر والد مارسيل بروست الحَجْر الصحي»، أن التنافس الاستعماري والاقتصادي بين الدول الأوروبية في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، منعها من أن تُوحد جهودها للقضاء على ما انتشر فيها من أوبئة كالطاعون، كما فعلت في بداية القرن الثامن عشر، عندما نجحت في الحد من انتشار الطاعون الذي اجتاح مرسيليا عام 1720، بإقامة مناطق حجر صحي في الموانئ البرية والبحرية الكبرى. غير أن أوروبا الراهنة ما تزال عاجزة، بعد ثلاثمئة عام من ذلك العهد، عن إيجاد لقاح لفيروس كورونا، واكتفت من جهودها بالعودة إلى فكرة أدريان بروست لإقامة مناطق حَجْر صحي على المصابين بهذا الوباء. والحقيقة هي أن والد الروائي مارسيل بروست لم يبتكر فكرة الحجر الصحي وإنما هو طورها ودعا إلى اعتمادها. ذلك أنه قبل القرن الخامس عشر كان الحَجْر الصحي يتم في قوارب على البحر، وبعد ذلك أُقيمَ في ميناء في البندقية يوضع فيه ركاب القوارب المشتبه في إصابتهم بالطاعون، وأول مكان للحجر الصحي في فرنســـا، ويُسمى «لازاريه»، ظهر في مدينة مرسيليا، عندما عم فيها الطاعون سنة 1720، وكان عبارة عن فضاءات معزولة ومجهزة بعُدة صحية، ثم شمل الحَجْرُ كامل المدينة، حيث صارت تُراقَبُ فيها حركة الدخول إليها والخروج منها لمنع انتقال الوباء.

وفي عام 1836، ظهرت عبارة «الحجر الصحي» صريحةً في دليل المسافرين من باريس إلى الجزائر، حيث وردت فيه الدعوة إلى «التسلح بالصبر والخضوع للحجز – في غرف بيضاء، وخالية من أي أثاث للقضاء على الجراثيم ـ لمدة عشرة أيام بالنسبة إلى الأشخاص القادمين من الجزائر، ولمدة خمسة عشر يوما بالنسبة إلى البضائع». وفي بداية القرن التاسع عشر، كان الجنود الذين عادوا من الجزائر، حيث كان الغزو الاستعماري مستمرا، أو من بلاد الشام، أو حتى من إيطاليا، هم الذين أُخْضِعوا للحجر الصحي، في منطقة لازاريه في مرسيليا.

وقد استغرق الأمر عدة عقود لتستقر نظرية «الحجر الصحي» وتتبناها الدولة بشكل رسمي، بفضل أعضاء هيئة صحة باريس بقيادة أدريان بروست. وقد شاع اسمه في فرنسا بوصفه مكافحا للأوبئة، خاصة بعد أن نشر عام 1873 مقالا رائعا وجريئا حول النظافة في فرنسا، والتدابير الضرورية لمنع انتشار الطاعون والحمى الصفراء والكوليرا الآسيوية. وقد عمل أدريان بروست رئيسًا للنظافة في كلية باريس، ومراقبا عاما للخدمات الصحية فيها. كما شارك في المؤتمرات الصحية الدولية الكبرى التي عقدت في منتصف القرن التاسع عشر، وتكاتفت فيها جهود دول أوروبا من أجل التفكير بشكل جماعي في مكافحة الأوبئة.

وفي هذا السياق، طرح أدريان بروست، في عام 1874، خلال مؤتمر عقد في فيينا، فكرة الحجر الصحي للحد من انتشار الأوبئة، وذلك بإقامة سلسلة من الفضاءات المخصصة للمرضى. وقبل ثلاث سنوات من ذلك ولد ابنه الأكبر مارسيل، الذي سيكون له شأن في تاريخ الأدب العالمي، وسيتأثر بتدابير والده الطبية عبر فرضِ الحَجْر الصحي على نفسه. وفي هذا الشأن، يؤكد الأكاديمي آلان بوزين في كتابه «بروست ورسائله» على أن التراسلَ الذي مال إليه بروست في سنواته الثماني الأخيرة، إنما هو حَجْرٌ صحي، تأثر فيه بجهود والده، ومثّل بالنسبة إليه حاجِزًا آمنا بينه وبين الآخرين، لأن كتابة الرسائل لأصدقائه بدون ملاقاتهم أمرٌ يقي من العدوى، ومن ازدياد التهابه الرئوي. لذلك خير له أن يعزل نفسه بشقته فلا يغادرها إلا نادرا، ويكون ذلك في الليل لقضاء بعض حاجاته بعيدا عن ملاقاة الناس الذين يعرفونه، ومن ثمة لم يكن يربطه بالآخرين إلا تلك الرسائل، وهذا ما تؤكده سيليست ألباريه معينته المنزلية من 1914 إلى 1922، حيث ذكرت في حوار معها ونُشر في كتاب بعنوان «السيد بروست» أنه كان يضع القفازات عندما يصافح زواره ومنهم طبيبه وأخوه. وكان لا يني يذكر لها خوفَه من إمكانية انتقال الجراثيم عبر الرسائل، وهو ما دفعه إلى اقتناء جهاز صغير به مادة الفورمالين التي تقتل البكتيريا ويمررُ عبره جميع الرسائل التي تصله لتعقيمها قبل فتحها.

 

*كاتب تونسي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي