الصورة الفكرية من مشهد الحج

الوطن السعودية - خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2008-12-13

علي سعد الموسى

يثبت الحج تماماً استحالة أن يكون الجسد الإسلامي نسخة واحدة متطابقة، وأنا هنا لا أتحدث عن إدارة حشود بشرية، بل عن إدارة حدود فكرية.
يثبت الحج فيما يثبت هلامية الهامش بين ما يعتقد فرد أو طائفة أو مذهب صواب رؤيته في مقابل خطأ الفرد أو الطائفة أو المذهب المقابل. هؤلاء الملايين، ورغم هول الاحتشاد في أمتار مربعة لا يمثلون إلا فسيلة من زرع هائل ولا يمثلون إلا أنموذجاً أو عينة من مئات الملايين الذين وزعهم الاختلاف الفطري الطبيعي في آلاف البيئات والثقافات والأجناس والمرجعيات:

من كان فيكم يطمع أن يتحد كل هؤلاء في ملة واحدة ورؤية واحدة فليفترش شارعاً واحداً من شوارع الحج في الموسم القادم ثم يتأمل الوجوه والسلوك والاعتقاد التي تبرهن أن كل فرد وطائفة أو مذهب نسيج وحده.

 
القول بالتطابق والتماثل لهذه الأمة ليس إلا ضرباً من الأوهام وتحليقاً في الخيال، ولهذا تبقى لإدارة الفكر الإسلامي مساحة غير مطروقة تؤمن بتوظيف الاختلاف والتباين والتمايز. تؤمن بالإفادة من القواسم المشتركة البسيطة في مقابل عوامل الاختلاف الهائلة.

 تؤمن بأن مساحة جغرافية هائلة من الثقافات والأجناس لا يمكن أن تصبح ثقافة متحدة ولا جنساً مؤتلفاً ولا مذهباً أو ملة واحدة. هذا هو لب وجوهر الإشكالات التي لم يتصد لها الخطاب الإسلامي الحديث، أو على الأقل خطاب ثقافتي التي عشتها ومذهبي الذي ألفت حيث الكثافة الأدبية بالحنين إلى الجذور وبالسلفية إلى المنبع رغم ألف وخمسمئة عام من قصة هذا الدين العظيم بكل ما في هذه المسافة الزمنية الهائلة من تغييرات وإرهاصات طبعت سنة الحياة في الاجتماع الإنساني وطورت بالسلب والموجب قصة تكيفه مع التعاليم، سواء كانت هذه التعاليم بفضل الدين، أو بفعل الثقافة السائدة.

 والحق أننا أمم شتى ولسنا أمة واحدة إلا في جوهر العبادة للرب الذي اجتمعنا من أجله على هذا الصعيد الطاهر. تختلف بنا آليات العبادة وطرق الاعتقاد، مؤمن أن ضحايا التحريف في المعتقد ليسوا إلا ضحايا الزمن الطويل والجغرافيا المتباعدة والتعاليم التي وزعتنا إلى طرق شتى ومذاهب شتى ولكن:

يستحيل أن نلغي إرهاص المكان والزمان وأثر البيئة والثقافة على جسد الدين والمعتقد، مؤمن أن في رؤيتي هذه لغة فلسفية تستصعب التبسيط وخصوصاً حين يطرح السؤال:

أيهما اليوم وفي هذا الزمن بالتحديد الأكثر تأثيراً في الإنسان المسلم الذي يمثل نصف مساحة الأرض وثلث سكانها، أهي ثقافته وبيئته التي يعشها بعد ألف وخمسمئة من المنبع أم هو دينه وتعاليمه بكل ما فيها من وسائط النقل حتى وصلت إليه؟

كل فرد فينا يثبت أنه نسيج وحده وأنه عجينة الظروف والبيئة والزمان والمكان وتأملوا قصة كل واحد منكم كفرد ثم قارنوها مع الأقران من ذات الأسرة في المحيط الأصغر، ثم أشملوا المقارنة بالمقارنة بالمثال ما بين الأسرة والأمة.

عاش أجدادي بيئة شافعية صرفة. تحولوا في مسيرة قرن واحد إلى المذهب المجاور في المكان بفعل الوحدة السياسية واليوم، يسمع الأحفاد من ذات الأسرة خطاباً تقريعياً لما كان عليه الأجداد من معتقد أو طريقة حياة ومن يسمع بعض جمل هذا الخطاب سيظن أن أجدادنا كانوا في حيد أو ميل عن الجادة السوية للمنبع أو السلف رغم أنهم إنما كانوا على مذهب مختلف.

قصتي كفرد في الاختلاف ليست أيضاً خياري ولا اختياري الذي خالفت به أخي الأكبر: كان خريج مدرسة دينية فيما أنا نتاج تعليم من نهج مختلف لأن القدر ما بين الاثنين كانت مساحة المتاح أمامنا من وسائط التعليم وطرقه التي اختلفت أو تباينت في أقل من عقد من الزمن.

 وهنا سأقف عن تفصيل الفوارق في الشخصنة ولكن: تبقى المقاربة لمثال ما بين الأسرة الصغيرة والأمة الأوسع: أن تلد في طهران هو القدر الذي يختلف بك عن المولود في الرياض وأن تكون مسلماً من الملايو هو بالضبط على الاختلاف عن المسلم المولود في المشاعر المقدسة.

 أن تعيش مسلماً في الهند غير أن تعيش حياة المسلم في بريدة: في الأولى ثقافة الأجناس والأديان والملل والطوائف حيث ـ العلمانية ـ أنسب الحلول، وفي الثانية تمضي الحياة بك وسط خطاب واحد متكرر لا مجال فيه لواسع اختلاف وهنا تبرز الإجابة عن مؤثرات الثقافة وتقاطع الدين وأيهما أكثر تأثيراً في تشكيل الوعي لكل فصيل من الأمة بحسب المكان والإجابة الحتمية تأتي من تقاطع العاملين: الثقافة والدين، ولهذا نبرز اليوم أمماً شتى لا أمة واحدة.

 هذا هو مفتاحنا إلى الخطاب الجديد: خطاب يؤمن باستحالة التطابق في مقابل التماثل وبصعوبة الائتلاف في نسق الاختلاف
نحن بالفطرة أسرى لكل الظروف من حولنا أينما ولدنا وكيف أسلمنا وتحت أي خطاب نشأنا: تلك هي صورة الحج.

 










شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي