باريس تحتفي بتولوز لوتريك فنان النشوة والانحطاط

2019-10-21

أبو بكر العيادي*

يحتضن متحف القصر الكبير بباريس معرضا فنيا لهنري تولوز لوتريك، أحد رواد الحركات الطلائعية، الذي خلّد في لوحاته ليالي باريس الصاخبة، للوقوف على ملامح فنه المميزة، من خلال بانوراما عريضة تشمل أكثر من مئة لوحة.

ويطمح المعرض المقام حاليا بمتحف القصر الكبير الباريسي والذي يضم قرابة مئة لوحة، إلى إعادة الاعتبار لهذا الفنان المنسيّ وإبراز مميزات فنه.

 قد يبدو في الأمر تناقض، ولكنه تناقض شكلي، ذلك أن لوتريك تصرّف في حياته كوريث، وصاحب علاقات، وغاز للفضاء العام، ومتفاعل مع عالم ترجم خفاياه بقوة وعمق، وصوّر الراهن كما هو. أي أنه كان سليل تقليد فرنسي في الواقعية التعبيرية، المباغتة والمباشرة شأن ماني، ودوغا وإنغر، ممّن اتخذوا التصوير الشمسي رديفا خلال القرن التاسع عشر.

ويعتبر هنري ماري ريمون دو تولوز لوتريك (1864-1901) فنان مونمارتر، وفنان النشوة والانحطاط، جمعت لوحاته بين الواقعية الخام والرغائب الدنيوية، ما جعله يقابل بما قوبل به بودلير من قبله، حين لم ينظر النقاد والقراء إلى شعره في عصره إلاّ من زاوية التفسخ الأخلاقي.

واستطاع هذا الفنان الطلائعي أن يلتقط ملامح عصره، ويجعلها حقيقية ملموسة، على غرار المصوّرين، وأن يحيط بكل الشرائح الاجتماعية، حتى الساقطة منها، ليثبّت صورة شاملة عن أجواء نهاية القرن التاسع عشر، من الكَنكان الأرستقراطي إلى بيوت الدعارة.

هذا الفنان الذي أصيب منذ صغره بمرض في العظام رافقه حتى وفاته في سن السابع والثلاثين، ومنع نموّه الطبيعي فلم تتجاوز قامته المتر ونصف المتر، كان يقضي أوقاته بين مرسمه وسهراته في أوكار باريس.

 ورغم حياته القصيرة، ترك 275 رسما مائيا، و369 طباعة حجرية وأكثر من خمسة آلاف رسم، لم تشفع له إلاّ في حضور محتشم لدى بعض المؤرخين والسينمائيين. وكان من أسباب ضموره أنه استهان بقيم طبقته، وأهمل سوق الفن، واستثمر عالم الليل الباريسي والجنس المدفوع الأجر، ونظر إلى ذلك كله بازدراء.

ويطمح المعرض المقام حاليا بمتحف القصر الكبير الباريسي والذي يضم قرابة مئة لوحة، إلى إعادة الاعتبار لهذا الفنان المنسيّ وإبراز مميزات فنه. قد يبدو في الأمر تناقض، ولكنه تناقض شكلي، ذلك أن لوتريك تصرّف في حياته كوريث، وصاحب علاقات، وغاز للفضاء العام، ومتفاعل مع عالم ترجم خفاياه بقوة وعمق، وصوّر الراهن كما هو. أي أنه كان سليل تقليد فرنسي في الواقعية التعبيرية، المباغتة والمباشرة شأن ماني، ودوغا وإنغر، ممّن اتخذوا التصوير الشمسي رديفا خلال القرن التاسع عشر.

وقد نسج لوتريك علاقات وطيدة بالمصوّرين، هواة ومحترفين، وساهم في التعريف بهم عن طريق المعلقات الإشهارية. وما أرشيفه الفوتوغرافي إلاّ جزء من ممارسات اللعبة الأرستقراطية حول المظاهر والهويات التي تتبدل حسب الظروف، ما يعني أن الحياة والرسام لا يمكن أن يخضعا للحدود المعتادة.

فنان يسمو بالحياة الحديثة نحو أساطير جديدة

ومنذ 1992، حاولت العديد من المعارض إدراج أعمال تولوز لوتريك ضمن “ثقافة مونمارتر”، التي كان فاعلا فيها، معلقا ومنتقدا، لكونه لم يغفل عن تصوير ما يأتيه الباريسيون في ليلهم ويتغاضون عنه في نهارهم، من ارتياد الأماكن المشبوهة أخلاقيا، من الكباريهات إلى المواخير، ولكن مقاربته السوسيولوجية، التي يحتفي بها أهل الاختصاص الآن، لم تلق رحابة الصدر في عصره، وقوبلت بالاستهجان، والسخرية في أحسن الأحوال. ولولا انتماؤه إلى طبقة أرستقراطية تحميه، لكان ضحية ما يشبه محاكم التفتيش، فقد وصف في حياته بالمدمن والمنحل والمختل عقليا، فضلا عن إعاقته الخلقية التي جعلته أشبه بقزم.

ولم يقف لوتريك يوما لإدانة الرذائل المدينية والأثرياء المتفسخين، بل كان مثل رسام الكاريكاتير هونوري دوميي، والشاعر شارل بودلير، يمارس حرية في التعبير لا تلقى ما تلقاه اليوم من تفهم، خصوصا أنها وردت في صيغ فنية. حتى المؤرخون، الذين أطنبوا في الوقوف عند فولكلور كباريه “المولان روج”، أهملوا المطمح الجمالي والشعري وحتى السياسي الذي أبداه لوتريك في أعماله، سيرا على خطى روني برانستو، وليون بونّا وفرنان كورمون.

 

المعرض الفني في متحف القصر الكبير بباريس يعيد الاعتبار للفنان المنسيّ ويبرز مميزات فنه

وكما يتبدّى في مراسلاته، استفاد لوتريك كثيرا من نصائح إدوار ماني، وإدغار دوغا وجان لوي فوران في تطوير قواعد النزعة الطبيعية التي كان يتبناها نحو أسلوب أكثر دقة وحدّة، مع استمرارية طبعت مسيرته القصيرة.

من ذلك مثلا أن سرديته عكست رغبته في تمثّل الزمن، وإجلاء تواصله بدل تثبيت حركته. فأمام ولعه الفوتوغرافي وتشجيع دوغا وشغفه بعالم الراقصات والمبتكرات الحديثة، ما انفك لوتريك يعيد تشكيل فضاء الصورة.

احتفاء بأرستقراطية الملذات

وما إن اتخذت أعماله وجهها الجديد، بتأثير من رواد مرسم كورمون (لويس أنكوتان، وإميل برنار وفنسنت فان غوخ) حتى وضع استراتيجيا بين باريس وبروكسل ولندن للتعريف بأعماله، فهو وإن تخلى عن الصالون الرسمي، لم يتخل عن الفضاء العام، بل كان يبحث، شأن كوربي وماني من قبله، عن تجديد فنون التاريخ عن طريق استكشاف المجتمع الحديث في أوجهه المتعددة، حتى وإن تجاوز الأعراف. وعلى غرار كتّابه المفضلين، استطاع لوتريك أن يوفّق بين تشظي الصورة الذاتي، والسمو بالحياة الحديثة نحو أساطير جديدة.

أن يكون تولوز لوتريك تمتع بمباهج مونمارتر، واحتفى بأرستقراطية الملذات وبارونات الرذيلة على طريقة بودلير، فذلك ممّا لا شك فيه، ولكن ما من أحد من مؤرخي الفن ينكر عليه وسائله الفنية في نقل التألق الساطع للأضواء وانعكاساتها، وحمى حرفاء متمرسين بالأجواء الحامية، وسخونة راقصات الفرنش كنكان في “المولان روج”، وخاصة لويز فيبر الشهيرة بـ”الشّرهة”، وقد صاغ كل ذلك بأسلوب متميز. وليس غريبا أن لوحته “هجران” قدّرتها سوثبيز لندن عام 2009 بـ6.2 مليون جنيه إسترليني.

  • كاتب تونس






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي