"أحمر" الفن السوفييتي في "القصر الكبير" الباريسي

2019-09-13

باريس - سليم البيك

 طغى الأحمرُ على جدران صالات «القصر الكبير» وسط العاصمة الفرنسية، بنوعٍ فنّي بعيد عن محتوى المعارض الفنّية، والمتاحف في العاصمة الباريسية، حيث تتكرّس أسماء مثل، بيكاسو ورينوار ومونيه، وتطغى تيارات فنّية كالرومانسية والانطباعية والتكعيبية على غيرها، بما يتعلّق بالمكان الباريسي، كمركز لهؤلاء ولتلك، خلال حقبات زمانية محددة، وتحديداً خلال النصف الأول من القرن الماضي، الزمن الذي انتشر فيه، على الجانب الآخر من العالم ذاته، في موسكو، نوع جديد من الفنون بأشكال ومضامين عدّة، كان لها ما يميزها جمعياً، وإن لم تكن بمستوى فردي بارز.
لهذه الفنون أقام «القصر الكبير» في باريس هذا الصيف معرضاً سمّاه «أحمر»، هي الفنون التي أتت بها الثورة البلشفية عام 1917.

في أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام، غيّرت ثورةٌ النظام الاجتماعي للبلاد، لروسيا القيصرية آنذاك، ولحق ذلك تغيير في الفنون على أشكالها، بما في ذلك السينما والأدب. خرجت مجموعة من الفنانين الطلائعيين، للتعبير عن الإدراك الجديد لمعنى الفن ووظائفه وآلياته، وكانت أعمالهم تصب في توجّهات الثورة، وبالتالي الدولة، وشكّلت تياراً في مجالات الفن المختلفة.
كان الصراع الطبقي، بأبعاده السياسية والاجتماعية، موضوعاً أثيراً لها، بل وحيداً ضمن تنويعات عريضة. فكانت فنونهم تحوّلاً موازياً للتحوّل الانقلابي، الذي كانت البلاد تشهده آنذاك.
في خضم ذلك، دعا الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي «جيش الفنون» أن ينزل إلى الساحة، ويكون جزءاً بنيوياً من هذا التحوّل الاجتماعي. بينما دعا نقّاد كأوسيب بريك ونيكولاي بونين إلى تأسيس «فن الإنتاج» تماهياً مع الصبغة الصناعية (الحمراء) الجديدة للبلاد، التي تقودها النظريات الاشتراكية.

 


من ذلك أتت الأساليب التغييرية والحديثة للفنون السوفييتية الباكرة، من ثورة شملت كافة نواحي الحياة بما فيها أساليب صناعة الفنون، فظهرت مُزيحةً سطوة اللوحات الزيتية جانباً، كانت فنوناً كالتصاميم والعمارة والغرافيك والسينما، وقد برع فيها السوفييتيون مقارنة بغيرهم من الشعوب آنذاك، مع تراجع سوفييتي في الفن التشكيلي بألوانه الزيتية، وهو ما كان بارزاً لدى شعوب أخرى وفنانين آخرين، وهذه الأساليب الفنّية الحديثة احتلّت جلّ مساحات المعرض في صالة معارض «القصر الكبير».

غياب الفردانية

في أكثر من 400 عمل فنّي عُرضت للمرة الأولى في فرنسا، يمكن تلمّس غياب الفردانية، وحضور الجمعية في الأعمال بشكل واضح، وليس ذلك في عملية الإنتاج وحسب، بل تخطاه إلى عملية التّلقّي، فقد يصعب إيجاد أعمال بقيمة «التحفة» هنا، بالمعنى الذي نجده في المتاحف والمعارض العالمية.

لا أعمال عظيمة لوحدها، بوحدها، بل بحضورها إلى جانب أخرى، فقيمة المعرض الفنّية تكمن في تلقّي محتواه جماعةً، ما يعطي قيمة تاريخية له قد تفوق قيمته الجمالية، ولعلّ «طليعية» الأعمال تضيف إلى تلك التاريخية، ففكرة أن أعمالاً كهذه «تُنتَج» في ذلك الزمن، وضمن ذلك السياق التاريخي والثوري، هي الأهم هنا، أمّا الوقوف أمامها، مفردةً، وتقييمها بالنّظر، كلاً على حدة، فقد لا يرتقي لبعض التوقعات.

الحقبة الستالينية

قُسّم المعرض زمانياً إلى فترتين: العشرينيات، هي فترة لينين عموماً، تميّز الفن بالجماعية، وبتجاور تيارات فنّية مختلفة، إذ لم تفرض الدولة «دوغما جمالية رسمية» على فنانيها. والثلاثينيات والأربعينيات، وهي الحقبة الستالينية التي تميزت بسيطرة تامة وشمولية للدولة على الإنتاج الفني فيها.

ويمكن ملاحظة الفارق في الأعمال الفنية بين المرحلتين، فكانت الأولى تجريبية تحديثية انطلاقيّة، والثانية سياسية نمطية مكررة، إضافة إلى لوحات زيتية قليلة جسّدت فلاديمير لينين وجوزيف ستالين، وكذلك الروائي مكسيم غوركي، ركّزت معظم اللوحات/الأعمال على شخوص عدّة داخل الإطار، يمارسون أعمالهم أو رياضاتهم، أو ما يمكن أن يكون «نصيحةً» من قبل الدولة للجمهور (من خلال الفنان)، وهذه رسائل موجّهة لا يمكن عدم ملاحظتها، ويبرز كذلك الشكل الذي أتت عليه هذه الأعمال، وذلك بخلاف ما ساد في بلدان الغرب آنذاك: هنالك أولاً تصوير واقعي للنّاس، في الهيئات الجسدية المخالفة لمعايير الجمال الغربية، في الرسم تحديداً، في لوحات العري مثلاً، رجالاً ونساءً.

هنالك ثانياً حضور بارز للنساء، لا كأيقونات ناعمة لامعة قانعة داخل الإطار، إنّما كآدميّات يتحرّكن بأجسامهن غير «التامة»، العضليّة غير الحليقة (فهنّ عاملات ولسن عارضات حوريّات)، كما في لوحة «السابحة» (1951) لألكساندر دينكا.


وهنالك ثالثاً العنفوان في ملامح الوجوه الأشبه بالنّاطقة من داخل اللوحة. هنالك رابعا الرمزية ذات الطابع السياسي، كما في لوحة «البلشوفيك» (1920) لبوريس كوستودييف، وفيها رجل عملاق بين جموع، يمشي حاملاً العلم الأحمر، هو – الرجل- الحزب البلشفي قائداً النّاس برايته. نضيفُ إليها الملصق السياسي المباشر، كما في ملصقين لغوستاف كلوسيس، في أحدهما يجمع لينينُ الناس كأنّه يخطب بهم، وفي الآخر يحمل عاملٌ الراية الحمراء كأنه يقود مسيرة.

المعرض إضافة لا بد منها لإدراك طبيعة الإنتاج الفنّي في المراحل الأولى للدولة السوفييتية. قد يدرك أحدنا، بالمشاهَدة والقراءة من بيته، الإنتاج السينمائي والأدبي السوفييتي الباكر، بأفلام ينطبق عليها (بالمقارنة مع الإنتاج الغربي آنذاك) ما قلناه عن الإنتاج الفني أعلاه. وإدراك المشهد الفنّي ضروري لعموم إدراك المرحلة التاريخية وفنونها الناتجة عن ثورة كانت الأكثر تأثيراً من غيرها.

 

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي