عقب تصعيد تهديداتها، بغية الضغط على الأطراف الأوروبية، لتلبية مطالبها في مجال بيع النفط، قبل انتهاء المهلة الثانية لشهرين، أعلنت إيران تدشين المرحلة الثالثة من تقليص تعهداتها في إطار الاتفاق النووي الموقع عام 2015، رداً على الانسحاب الأميركي منه، اعتباراً من أمس الجمعة.
فماذا تتضمن هذه المرحلة؟ وما السيناريوهات المرجحة للأزمة بعدها؟
فقد كشف المتحدث باسم هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي، اليوم السبت، تفاصيل الخطوات التي ستتخذها بلاده خلال المرحلة الثالثة لخفض تعهداتها النووية، وهي خطوات فنية معقدة.
وتندرج هذه الخطوات كلها تحت عنوان رفع إيران القيود عن البحث والتطوير في المجال النووي، والتي ينص عليها الاتفاق النووي في البنود الـ"32 و33 و34 و35 و36 و37 و39".
وستتخذ إيران، بحسب إعلان "هيئة الطاقة الذرية" 8 خطوات لإنهاء تلك القيود، منها 4 خطوات بدأت الهيئة العمل بشأنها، و4 خطوات أخرى، ستتخذها خلال الشهر أو الشهرين المقبلين، أي خلال مهلة الستين يوماً الثالثة.
بيد أنّ السبب وراء تقسيم خطوات المرحلة الثالثة إلى قسمين، وتأجيل تنفيذ القسم الأهم منها إلى بعد شهر أو شهرين، يحمل في طياته نية إيرانية لاستخدام ذلك خلال المهلة الجديدة كأداة ضغط، تلعب على وترها في مواجهة "المماطلات الأوروبية" لدفع الاتحاد الأوروبي إلى تنفيذ "تعهداته الاقتصادية" تجاه الاتفاق النووي من جهة، وكذلك لإعطاء المزيد من الفرصة للمباحثات التي تجريها مع الدول الأوروبية الثلاث (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) الشريكة في الاتفاق النووي من جهة ثانية، ولكي لا تثير مرة واحدة أوروبا والمجتمع الدولي في وقت تسعى فيه الإدارة الأميركية إلى تحشيد العالم ضدها من جهة ثالثة.
4 خطوات بدأت إيران تنفيذها
أما الخطوات الأربع التي بدأت السلطات الإيرانية تنفيذها في إطار المرحلة الثالثة هي كالتالي:
الخطوة الأولى تنهي القيد الوارد في البند الـ39 بالملحق الأول للاتفاق النووي، لتشمل إنتاج المحصول المخصب عبر الجيل الجديد لأجهزة الطرد المركزي وعدم اختلاط النفايات بالمحصول الجديد. وينص الاتفاق النووي أن هذا القيد ينتهي بعد عشر سنوات من تنفيذ الاتفاق، والذي بدأ في يناير/ كانون الثاني 2016.
وتنهي الخطوة الثانية القيد الوارد في البند الـ32 بالملحق الأول للاتفاق النووي، حيث تشمل ضخ الغاز إلى الجيل السادس لأجهزة الطرد المركزي (IR6s) بينما وبموجب الاتفاق، ينتهي القيد المفروض على هذا النشاط مع بداية العام الحادي عشر للاتفاق النووي.
أما الخطوة الثالثة فتنهي القيد المنصوص عليه في البند الـ35 بالملحق الأول للاتفاق النووي حيث سيتم تشغيل سلسلة العشرين من الجيل الرابع من أجهزة الطرد المركزي "IR4"، أي أن السلسلة تتكون من 20 جهازاً من هذا الطراز.
وينص الاتفاق النووي على أنّ هذا القيد تنتهي صلاحيته مع بداية العام الحادي عشر للاتفاق النووي.
وتنهي الخطوة الرابعة القيد المنصوص عليه في البند الـ 37 بالملحق الأول للاتفاق النووي، لتشمل ضخ الغاز إلى سلسلة (العشرين) مكونة من 20 جهازا من الجيل السادس لأجهزة الطرد المركزي (IR6s)، وذلك قبل أن تنتهي صلاحية هذا القيد بموجب ما ينص عليه الاتفاق في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
4 خطوات ستنفذها إيران
أما الخطوات الأربع الأخرى، والتي تتضمنها المرحلة الثالثة من تقليص التعهدات، ويفترض أن تنفذها إيران خلال الشهر أو الشهرين المقبلين، بحسب تصريحات كمالوندي، فهي كالتالي:
تنهي الخطوة الأولى القيد الوارد في البند الـ32 بالملحق الأول للاتفاق النووي، حيث تشمل الخطوة تركيب وتشغيل سلسلة وسطية من أجهزة الطرد المركزي من طراز "IR2m"، وذلك قبل انتهاء الفترة الزمنية التي حددها الاتفاق لذلك في بداية العام الحادي عشر بعد تنفيذ الاتفاق النووي في يناير/ كانون الثاني 2016.
وتتمثل الخطوة الثانية في تركيب وتشغيل سلسلة العشرة (أي عشرة أجهزة) من أجهزة الطرد المركزي من طراز "IR5" وضخ الغاز إليها، لينهي ذلك القيد الموجود في البند الـ 36 بالملحق الأول، والذي ينص الاتفاق النووي على أنه يرتفع مع بداية العام الحادي عشر من الاتفاق.
وتكمن الخطوة الثالثة في تشغيل وضخ الغاز إلى سلسلة من أجهزة الطرد المركزي من طراز "IR4"، و"R2M"، لتنهي هذه الخطوة القيود المفروضة على ذلك في البنود الـ33 و34 و35 بالملحق الأول للاتفاق النووي، والتي تنتهي بموجب الاتفاق مع بداية العام الحادي عشر من الاتفاق.
والخطوة الرابعة، وهي الأكثر أهمية من بين تلك الخطوات آنفة الذكر، تتثمل في تشغيل وضخ الغاز إلى سلسلة الثلاثين من الجيل السادس لأجهزة الطرد المركزي، حيث تنهي الخطوة القيد
الوارد في البند الـ 37 بالملحق الأول للاتفاق النووي، والذي ينتهي بعد 8 سنوات ونصف بعد بدء تنفيذ الاتفاق النووي.
ويحظر الاتفاق النووي اختبار إيران للجيل السادس لأجهزة الطرد المركزي على شكل سلسة مكونة من 30 عدداً، قبل عام 2030.
وتقوم إيران من خلال تلك الخطوات الثماني بعمليات بحث واختبار لتطوير أجهزة الطرد المركزي بغية رفع قدراتها الإنتاجية في مجال إنتاج اليورانيوم وتخصيبه لاحقاً، لذلك فإنّ الآثار التي تترتب على تلك الخطوات لا تظهر سريعاً وإنما تستغرق الوقت، ما دام الأمر يتعلق بإجراء البحوث والاختبارات العلمية، ولا يفترض أن تظهر نتائجها في القريب العاجل، إلا أن تلك الخطوات تمثل إستراتيجية في مضامينها على المدى البعيد.
وتحاول إيران من خلال تلك الخطوات التمهيد للتخصيب على المستوى الصناعي، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال إجراء بحوث نووية، كما أنه من دون تلك البحوث التي خضعت للقيود قبل أن ترفعها إيران ضمن المرحلة الثالثة، لا يمكن أن تحقق إيران إنتاج 190 ألف وحدة فصل (SWU) مستخدمة في التخصيب، والذي كلف المرشد الإيراني علي خامنئي، في يونيو/حزيران 2016، هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بالتحضير لإنتاج هذا المقدار، علما بأنّ الاتفاق النووي يسمح بإنتاج 272 ألف وحدة فصل.
تجنّب التصعيد "الكبير"
وفي السياق، قال المتحدث باسم هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، اليوم السبت، إنّ الهيئة تتطلع إلى إنتاج مليون وحدة فصل لاحقاً.
والفارق بين الخطوات التي اتخذتها إيران خلال تنفيذ المرحلتين الأولى والثانية لخفض تعهداتها النووية، وبين خطوات المرحلة الثالثة، أنّ الأخيرة لها طابع مختلف وأنّ العودة عنها لاحقاً في حال التوصل إلى اتفاق مع أوروبا لا تعني العودة إلى الوراء في المجال النووي، كونها خطوات ترتبط بالأبحاث النووية، كما أنّ إنهاء القيود في هذا المجال لا يعني أنّ النتائج ستكون سريعاً في متناول الأيدي الإيرانية.
وعلى الرغم من أن هيئة الطاقة الذرية الإيرانية أعلنت، اليوم السبت، أنّ طهران على وشك إنهاء جميع التعهدات التقنية، إلا أن قراءة متفحصة في الخطوات الإيرانية خلال المراحل الثلاث، والتي شملت رفع القيود إنتاج اليورانيوم والماء الثقيل، ورفع نسبة التخصيب إلى 4.5 %، وأخيراً رفع القيود على إجراء البحث والتطوير في المجال النووي، تظهر أنّ طهران لا تزال تتجنب التصعيد "الكبير" في إنهاء تعهداتها النووية، حيث إنّ هناك التزامات كبيرة ما زالت تنفذها، ولم تمس بها، وهي التزامات جوهرية.
فعلى سبيل المثال، وفي ما يتعلق بنسبة تخصيب اليورانيوم، رغم تأكيد إيران على أن لا قيود أمامها في هذا الخصوص، إلا أنّها تصرح بأنه لا تنوي زيادة النسبة إلى 20 %، وهي نسبة مقلقة بالنسبة للغرب، ويعني ذلك أن إيران ليست بصدد إجراء تغييرات في عمل موقع "فردو" النووي، الخاص لرفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى هذه النسبة وأكثر، على الرغم من أنها تؤكد امتلاكها القدرات الكافية في هذا المجال.
وبغض النظر عن إنهائها القيود في مجال البحوث بشأن تطوير أجهزة الطرد المركزي، أعلنت إيران، اليوم السبت، على لسان المتحدث باسم هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، أنّها لا تعتزم تغيير عدد أجهزة الطرد المركزي، أي أنّها ستبقى ملتزمة بالعدد المسموح به في الاتفاق النووي، والذي يصل إلى 5060 جهازاً في منشآة "نطنز" و1044 جهازاً في منشآة "فردو"، بينما كان العدد المستخدم لهذه الأجهزة قبل التوقيع على الاتفاق النووي قرابة 19 ألف.
وكذلك الحال بالنسبة لموضوع الرقابة الأممية على برنامج إيران النووي، والذي قال كمالوندي إّن بلاده لا تريد في الوقت الحاضر أن تمس خطواتها "موضوع رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية والشفافية في هذا المجال"، لتبقى هذه الرقابة "الصارمة" سارية.
ماذا بعد المرحلة الثالثة؟
وبناء على ما سبق ذكره، فإنّه من غير المتوقع أن ترد أوروبا على تنفيذ إيران المرحلة الثالثة من تقليص تعهداتها بخطوات تصعيدية ضدها، من خلال تفعيل آلية "فض النزاع" في الاتفاق النووي، أو ما شابه ذلك.
من غير المتوقع أن ترد أوروبا على تنفيذ إيران المرحلة الثالثة من تقليص تعهداتها بخطوات تصعيدية ضدها
لكن كما تقول طهران، في حال واصلت أوروبا "مماطلاتها" في "الوفاء بالتزاماتها" الاقتصادية تجاه الاتفاق النووي، فمن المحتمل أن تطاول سياسة خفض التعهدات لاحقاً ما هو أكثر حساسية وجوهرية في الاتفاق، مثل رفع نسبة التخصيب إلى العشرين في المائة وأكثر من ذلك أو زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي وتفعيل "فردو" وإنهاء الرقابة الأممية وغيرها، لكن ليس مرة واحدة، وإنما بالتدرج، حيث ستمنح إيران مهلاً أخرى لمدة شهرين لكل منها.
كما أنّ تنفيذ إيران المرحلة الثالثة يؤكد أنّ مباحثاتها مع أوروبا فشلت حتى هذه اللحظة في إنقاذ الاتفاق النووي "المترنح"، بعد الانسحاب الأميركي، ما جعل مستقبله أكثر ضبابية وغموضاً من خلال الخطوات التي اتخذتها.
لكن أن تكون هذه الخطوات تدريجية مع منح مهلة أخرى لشهرين قبل تنفيذ المرحلة الرابعة، يظهر أنّ الحكومة الإيرانية، لا تزال تأمل في أن تثمر تلك المباحثات إلى نتيجة تمكنها من الحصول على جزء من مكاسبها الاقتصادية من الاتفاق النووي.
ويدور التساؤل حالياً حول إمكانية أن تمنح الولايات المتحدة فرصة لإنجاح المباحثات الأوروبية الإيرانية، بعد رفضها "القاطع" لأي إعفاءات على العقوبات على إيران، وخصوصاً في المجال النفطي والمصرفي، خلال الفترة الأخيرة، ما أفشل الحراك الفرنسي في التوصل إلى نتيجة، تحول دون تنفيذ إيران المرحلة الثالثة من خفض تعهداتها النووية.
وهناك فرصة شهرين للوصول إلى إجابة على هذا التساؤل، لكن سيبقى التشاؤم سيد الموقف في ظل المعطيات المتوفرة حالياً، وعلى ضوء الرفض الإيراني لإجراء أي تفاوض مباشر مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلا إذا حصلت مفاجآت غير متوقعة من العيار الثقيل.