لوهافر تحتفي بابنها راوول دوفي مبدع "الضوء اللون"

خدمة الأمة برس
2019-09-02

أبو بكر العيادي


يقيم معرض الفن الحديث “أندري مالرو” بلوهافر معرضا فنيا لواحد من أبناء هذه المدينة الفرنسية، هو راوول دوفي الذي ظل وفيا لها، حتى بعد أن اضطر إلى هجرها لأسباب صحية والإقامة في جنوب فرنسا، وقد انطبعت أعماله بشتى الحركات الفنية التي ظهرت في عصره.

ارتبط اسم راوول دوفي (1877-1953) بالمدينة التي رأى فيها النور، لوهافر الشهيرة بمرفئها وشواطئها التي ألهمت الانطباعيين، من كلود موني إلى أوجين بودان.

وكان دوفي من أسرة متواضعة، كثيرة العدد، ما اضطره إلى العمل عند أحد مورّدي القهوة البرازيلية منذ سنّ الرابعة عشرة، ومزاولة دروس مسائية في المدرسة البلدية للفنون الجميلة.

ولفتت محاولاته الأولى انتباه أستاذه شارل لويليي، وكان رساما كلاسيكيا ممتازا، فأسندت إليه المدينة عام 1899 منحة لمواصلة دراسته في باريس رفقة صديقه أوتون فريز، في المعهد العالي للفنون الجميلة، حيث تتلمذ على ليون بونّا.

ولمّا تخرّج عاد إلى لوهافر، تلك المدينة الساحلية التي تتقمّص وحدها مساره الفني، من لوحاته الأولى ذات الصبغة الانطباعية إلى أعماله الأكثر واقعية، ومن مناظره ذات النزعة التوحشية إلى الحسان السابحات الشبيهة بلوحات سيزان، وصولا إلى مرحلته “الزرقاء” كما وصفها النقاد، ومرحلة “سفن الشحن السوداء”.وكان طوال مراحله كلها يشفع لوحاته تلك بأعمال في الفن الخزفي، والرسم، والنقش على الخشب، والطباعة على الحجر، والرسوم التوضيحية كتلك التي أعدّها لبعض المؤلفات كـ”ماريغو” لمالارمي، و”الشاعر القتيل” لأبولينير، أو إعداد الأزياء والديكور لبعض المسرحيات مثل “ثور على السطح” لجان كوكتو.

ويذكر مؤرخو الفن ونقاده أن إنتاجه كان من التنوع والغزارة ما جعله يفوق فناني عصره كمًّا، فقد أنتج نحو ثلاثة آلاف لوحة، وستة آلاف رسم مائي، وستة آلاف رسم، إلى جانب الرسوم على الأنسجة والزرابي والطباعة على الحجر، ولكنه، بخلاف بيكاسو، لم يكن مولعا بحفظ كل إبداعاته.

ويضم معرض الفن الحديث “أندري مالرو” بلوهافر الذي يتواصل حتى مطلع نوفمبر المقبل ثمانين عملا، ما بين لوحات زيتية، وأخرى مائية، وبعض الرسوم والأعمال الخزفية، موزّعة بشكل كرونولوجي يسمح للزائر بتتبّع مراحل تطوّر تجربة راوول دوفي، التي تعكس كلها احتفاء ممتعا بالضوء واللون، ويلمس فيها حشدا من الأضواء والألوان في لوحات تذكّر بمعالم قديمة، منها ما ظل على حاله، ومنها ما تغيّرت ملامحه، ومنها ما زال واندثر تماما بفعل التطوّر العمراني، ولكن أغلبها يتحوّل في ريشة دوفي إلى منظر داخلي، أو ذكرى لطيفة لا تحدّد بعمر.

وبدأ دوفي انطباعيا سيرا على خطى صديقه أوجين بودان، الذي كان يرتاد منطقة النورماندي على غرار الفنانين الذين أقاموا ردحا من الزمن في تلك الجهة، أمثال كلود موني، وغوستاف كوربي، وأوغست رونوار، وكميل بيسّارو، وإيفا غونزاليز، يلتقطون معالم تلك الجهة وتفاصيلها، وخاصة أضواءها وألوانها، يرسمونها في الهواء الطلق.
ثم انتقل إلى التوحشية، عندما اكتشف موريس دو فلامينك، وأندري دروان، وخاصة ماتيس ولوحته “ترف وهدوء وشبق”.

التنوع بغزارة

تلتها مرحلة الحرية في الألوان والأشكال، رفقة صديقه ألبير ماركي، انتقل إثرها إلى التكعيبية وهندسة الفضاء والأحجام، مع ابن مدينته ورفيق دراسته جورج براك، إلى أن اهتدى إلى الأسلوب الذي عرف به، إذ بدأ ينأى شيئا فشيئا عن تمثل الواقع، فتحرّرت اللمسة، وفاض اللون على الخط، وصار الرسم علامة. وبرز اللون الأزرق أو “الضوء اللون”، كما يسمّيه، لكونه اللون الوحيد الذي يحافظ، في كل الدرجات، على ذاتيته، حسب قوله. ورغم أن لوهافر كانت حاضرة دوما في أعماله، فإن الموتيف صار مجرّد مطيّة للبحث عن الضوء، لأجل تشكيل يجد تألّقه في تمايز اللون.

بأسلوب مخصوص إذن، وطريقة متميزة في فصل الخطوط والأشكال ولمسات الألوان، لم ينفك دوفي طوال حياته يعيد تأويل بعض الموتيفات التي لاحظها في مدينته لوهافر، وفي منطقة النورماندي عموما، وليس غريبا أن تحتفي لوهافر بابنها الفنان، مدينته التي لم تعد في لوحاته مجرّد مدينة، بل أضحت مناخا ينقله بواسطة ريشته، يتبدى خلالها المرفأ والجون والمنتجع والجرف مشعشعة بهالة من الضوء وزرقة البحر، فقد ظل حتى بعد أن هجر مسقط رأسه، يستحضر في لوحاته صور تلك المناظر التي استقرت في ذاكرته.

طوال حياته، كان ينهل من ذلك المعين البحري، حتى بات لديه أشبه بملاذ أو مرسى، وثيمة ثابتة، مخلدا مدينته “المثالية” في منظر ذهني لا يضاهى، فهي التي بلورت بحوثه التشكيلية والأسلوبية بشكل جعله عصيا على التصنيف، إذ جمع تقريبا كل تيارات عصره، في ثرائها وتنوعها.

 

 

وجملة القول إن راوول دوفي يعتبر من كبار الفنانين في القرن العشرين، وإن لم يؤسّس مدرسة أو يترك أتباعا، وتكمن جِدّته في تعبير ناجم عن موهبة في الرسم والتلوين، مشفوعة باستعمال مخصوص للون، لم يضاهه في تشكيله أحد.

وهو كان يفسر عشقه للألوان قائلا “عندما أتحدث عن الألوان، فأنا لا أعني ألوان الطبيعة، بل ألوان الرسم، ألوان فرشتي، التي هي كلمات أشكّل بواسطتها لغة الفن التشكيلي”.

ألوان فرشاة شكلت لغة الفن التشكيلي


كاتب تونسي*

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي