
سليم البيك*
الوثائقي المتمَحور حول شخصية بعينها، واقعية، يلحقُها في يومياتها وأشغالها، إما ينحصر بتلك الشخصيات، أو ينطلق معها إلى مادة استحقت أن تكون أوّلية لفيلم وثائقي، فيها ما يجعلها خاصة وجديرة بالتصوير. هنا، في «تعايش، ماي آس!» (!Coexistence, My Ass)، ليس في الشخصية أي خصوصية، فهي مؤدّية كوميديّة كانت ناشطة حقوقية، ونشِيطة مع الفلسطينيين في منصات التواصل الاجتماعي. لا استثناء في ذلك يجعلها موضوع فيلم متمحور حولها، لكنها كانت ضمن سياق وتوتّرات وأحداث جعلت لا منها، بل من ردّات أفعالها ومواقفها، حالةً لا أقول خاصة بل نادرة في مجتمع، كالمجتمع الإسرائيلي.
الشخصية هي نوام (أو نعمة) شوستر-إلياسي، تتكلم العربية بلكنة خفيفة فلسطينية، يهودية ومن أصول إيرانية، إسرائيلية تصفّ، بدرجة تندُر هناك، إلى جانب حقوق الفلسطينيين. والفيلم أخرجته أمبر فارس الكندية من أصل لبناني، وكتبته راتشيل ليا جونز ورباب حاج يحيى. المحيط الذي تعيش فيه نعمة، ثم استخدامها السخرية أسلوباً للتمرد عليه ومواجهته، ثم تَتابُع الأحداث وتطرُّفها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، جعل للفيلم مادة خاصة لوثائقي، أساسها التناقض والتشابك، بين نعمة ومواقفها من ناحية، وسياق الدولة الاستعمارية التي تعيش مواطنةً فيها، وتغوّل الفاشية هناك، من ناحية أخرى.
من خلال خطين متوازيين: أولهما عرض كوميدي لنعمة بالعنوان ذاته للفيلم، لاحق لأكتوبر 2023، تتقطّع لقطاتُه على طول الفيلم، متداخلة مع الخط الثاني: تصوير واقعي وبكاميرات تليفون، ومَشاهد أرشيفية، لمحطّات من حياة نعمة وما أحاط بها. كأنّها، المحطات، أوصلتها أخيراً إلى تناقض تناحري بين خيارين، في أكتوبر. لكن نعمة، كما أظهر الوثائقي، حافظت على سويّة نسبية في موقفها، وضمن مجتمعها، ملخّصةً إياه بعنوان الفيلم، ألا تعايش في هذه البلاد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما لخّصته بقولها في ألا تعايش إلا بين طرفين متساويين، لا بين مضطهِد ومضطهَد.
الانحدار التراجيدي في الأحداث في قطاع غزة منذ أكتوبر ذاته، قلبَ أجواء الفيلم الذي، من خلال بطلته وحتى ذلك الشهر، حمل الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي إلى مساحة قابلة للسخرية الموجَّهة إلى المجتمع الإسرائيلي، ساخرة كذلك من القائلين، غربياً، إنها «مسألة معقدة ومتشابكة»، لكن الانحدار أزاح السخرية فما عادت محتمَلة في ظرف الإبادة، وامتلأ العرض «الكوميدي» بالدموع والحسرة بدل الضحك، وكذلك تحوّلت أجواء الفيلم. هذا الانحدار في الأحداث نقل الفيلم من السخرية تجاه حالة مستقرة من الاستعمار، فسمح الاستقرارُ بنوع من الهزء، إلى الذهول تجاه تراجيديّة لا تتّسع للمزاح. هذا الانعطاف الحاد في وتيرة الفيلم وتوتّره، من دون القطع بين ما قبله وما بعده، أحال إلى نوع من السبب والنتيجة، من التقديم والاستنتاج، فكلام نعمة ومواقفها المستمَدة، كذلك، من والديها، اليساريين الراديكاليين كما عرّفتهما، كانت، الكلام والمواقف، ما قبل أكتوبر ذاته، تمهيداً لما سيليه، فحالة تَعايش مستحيلة بين المستعمِر والمستعمَر، ستفضي إلى انفجار رأينا مثالاً له في أكتوبر وما تبعه إلى اليوم. لحظة تاهت فيها نعمة في موقف مرتبك ومهزوز قبل أن تستدرك موجّهةً عينيها إلى غزة.
في الفيلم، لموضوعه، خطّان ملتصقان لا يستوي الكلام عنه من دون الالتفات إلى كليهما: المضمون السياسي والشكل الفني. وكلاهما متعلّق ببطلته نعمة. فالفيلم بوصفه متمحوراً حولها، تتبَّعَ البطلةَ صعوداً ونزولاً، ممسكاً بخطٍّ سردي، كتابةً ومونتاجاً، ما يجعل من هذه الشخصية قصةً يمكن متابعتها. وكانت نعمة، لا لكونها مؤدّية كوميدية ذات مواقف فلسطينية نسبياً، بل لكونها كذلك في سياقها الإسرائيلي بحالته الفاشية أخيراً، كانت إذن موضوعاً يحمل في ذاته تناقضات تجعل منها مادةً جيدة لوثائقي، فكان الفيلم أخيراً، وإن بدأ بظرفٍ وشخصيةٍ عاديّين، كان مع الانحدار التراجيدي للبلاد لاحقاً، عملاً وثائقياً أحسنَ بذكاء التقاط ظروفٍ محيطة بشخصيته.
الفيلم الذي شارك في مهرجانات منها «سندانس» و»فزيون دو ريل» و»كوبنهاغن»، جيد فنياً، وهو ضروري سياسياً، فالسخرية الممتدة على طوله، لبطلته من المجتمع الإسرائيلي المتدهور نحو الفاشية، فيه ما لا يستطيع خارجيّ، فلسطيني مثلاً، اقتحامه. ولنباهة بطلته لم يكن الفيلم بياناً سياسياً ولا خطاباً جماهيرياً. كان، تماماً، كعرض أداء كوميدي يُشرِّح موضوعَه (ويُشرشِحه) كما لا تفعل المحاضرات والورشات.
كاتب فلسطيني/ سوري