أبجدية البوح : تأملات فلسفية وشاعرية في جوهر الإنسان
2025-03-27
يتميز كتاب "أبجدية البوح – ألف شمس وشمس" للكاتبة إشراق علي الهمداني الصادر عن دار (عناوين بوكس) بكونه عملاً أدبيًا يتجاوز التصنيف التقليدي للكتابة، فهو ليس رواية، ولا مجموعة شعرية، ولا كتابًا فلسفيًا محضًا، بل مزيج من التأملات العميقة التي تتراوح بين الذاتي والكوني، بين اليومي والميتافيزيقي، بين الجمال والمعاناة. الكتاب أقرب إلى نصوص الحكمة التي تعتمد على تكثيف المعنى في عبارات موجزة لكنها ثرية بالدلالات، فتبدو كل جملة فيه وكأنها حكمة تستدعي التوقف والتأمل.تنبني بنية الكتاب على شذرات متفرقة، كل واحدة منها تحمل بعدًا تأمليًا مستقلًا، لكنها في مجملها تشكل فسيفساء فكرية تعكس رؤية الكاتبة للعالم والإنسان. هذه التجزئة تعطي النص طابعًا تجريبيًا خاصًا، حيث لا يتبع تسلسلًا منطقيًا صارمًا، بل يتخذ شكل تداعيات فكرية وشعورية تتقاطع وتتناغم، ما يمنح القارئ حرية القراءة من أي نقطة يشاء دون أن يفقد الجوهر.
اللغة في الكتاب مشحونة بطاقة شعرية مكثفة، إذ تمزج الكاتبة بين المباشرة الفلسفية والتلميح الرمزي، فتخلق نصًا ينهل من التراث الصوفي والحكمة العربية القديمة، لكنه في الوقت ذاته يتماهى مع الأسلوب الحديث في كتابة التأملات. هذه المفارقة بين الأصالة والمعاصرة تمنح النص بعدًا زمنيًا ممتدًا، وكأنه خطاب يعلو فوق قيود الزمن والمكان.
الموضوعات التي يتناولها الكتاب تتراوح بين البحث عن الحقيقة، وتأملات في جوهر الإنسان، وثنائية الخير والشر، والحب والخيانة، والسعادة والتعاسة. تعكس النصوص انشغالًا بالمسائل الوجودية الكبرى التي تتردد في الأدب الإنساني عبر العصور، لكنها هنا تتخذ شكلًا أكثر ذاتية، وكأن الكاتبة تبوح بتجاربها الخاصة عبر مرآة التأمل الكوني.
رغم الجمال اللغوي والكثافة الفكرية، قد يجد بعض القراء صعوبة في التفاعل مع النص نظرًا لافتقاده إلى خط سردي واضح، فليس هناك قصة تتطور، ولا شخصيات، بل هو صوت واحد يتحدث بعمق وهدوء. هذا قد يجعله أقرب إلى الكتب التي تُقرأ على مراحل، وليس دفعة واحدة، حيث يستدعي استيعابه وقتًا وتأملًا.
يمثل "أبجدية البوح" تجربة أدبية فريدة تضاف إلى المشهد الأدبي اليمني و العربي، حيث يتماهى فيه الشعر مع الفلسفة، والذات مع الكون، والحكمة مع العاطفة. إنه كتاب لا يقدم إجابات نهائية، بل يفتح أبواب التساؤل، ويحفز القارئ على التفكير والتأمل في جوهر الحياة والإنسان. وفي زمن يسوده الإيقاع المتسارع، يذكّرنا هذا العمل بقيمة البطء، والتوقف عند التفاصيل، والإنصات إلى الصوت الداخلي الذي غالبًا ما يضيع وسط صخب العالم.
