
يقدم هذا الكتاب متابعة نظرية تحليلية لتاريخ مفهوم المجتمع المدني ولتأثيراته في الفكر السياسي الغربي خلال أكثر من 2500 عام، منذ أرسطو مرورا بفلاسفة عصر التنوير وتوكفيل وبمتطوعي كولن باول من أجل أمريكا. ويعرض المؤلف من خلال الكتاب لما يمكن للمفهوم أن يقدمه للشؤون السياسية المعاصرة كما يعرض فيه حدود هذا الإمكان.
يشير المؤلف إلى أن المفهوم برز في الخطاب الأكاديمي والسياسي معظم العقد الماضي نتيجة لغياب الأهداف العامة النبيلة والقادة المميزين وهو ما أسفر في المحصلة النهائية عن أن قسما كبيرا من العمل المعاصر، وهو يستشعر الانهيار بقلق وتحركه ريبة عميقة في الدولة يتمسك بقدرة المجتمع المدني على إحياء الحياة العامة.
ويشير المؤلف إلى أن هناك ما يصفه بثلاثة متون فكرية وسمت تطور المجتمع المدني رغم وجود ما يصفه بعمليات تهجين خصبت دائما كل تراث من هذه الثلاثة. فلقد توجه الفكر الكلاسيكي والقروسطي نحو المقولات التحليلية الواسعة، لهذا فإنه ساوى بين المجتمع المدني والجماعات المنظمة سياسيا «الكومنولث».
وسواء أكان المصدر النهائي لشرعيته دينيا أم دنيويا، فإن المجتمع المدني جعل من قيام الحضارة أمراً ممكنا لأن الناس عاشوا في تجمعات محكومة بالقانون ومحمية من سلطة الدولة القسرية فشكلت هذه المفاهيم الطريقة التي فهم بها المجتمع المدني لقرون عديدة.
وحينما بدأت قوى الحداثة بتقويض الاقتصادات الضمنية والمعرفة الكلية التي سادت العصور الوسطى أدى التشكيل التدريجي للأسواق القومية والدول القومية إلى نشوء تراث ثان أخذ يصوغ مفهوما جديدا عن المجتمع المدني بوصفه حضارة ممكنة نشأت بفضل المصلحة الفردية والمنافسة والحاجة.
ويشير إلى أن ما يراه بعض المفكرين من أن عصر التنوير أطلق فرصا غير مسبوقة للحرية في عالم دنيوي يشمل التجارة العلم والثقافة، بينما يرى بعضهم الآخر أن ما يتسم به المجتمع المدني من اضطراب ولا مساواة وصراع أحبط إمكانية التحرر فيه واستدعى قدرا من الرقابة العامة.
ومع ذلك كان من الواضح كيفما تم تصور المجتمع المدني أن العالم لم يعد بالإمكان فهمه باعتباره نظاما من جماعات سياسية متماسكة. لقد تطور المجتمع المدني بالترادف مع نزعات تمركز الدولة الحديثة وتسويتها فجاء متن فكري ثالث مؤثر يصوغ المجتمع المدني باعتباره ميدانا مألوفا للروابط الوسيطة يسهم في الحرية.
ويتطرق بعد ذلك إلى نمط خضوع تصورات الحياة السياسية الدنيوية للنظريات المسيحية عن المجتمع المدني، تلك النظريات التي نظمت حول حال السقوط التي ترسف بها الإنسانية وفسادها وتبعيتها وتراتبيتها وإنكار هذه النظريات لقدرة الفعل الخلقي على توجيه أعمال البشر.
وبقدر ما كانت هذه الإدانة الشاملة للإرث الكلاسيكي قوية فإنها دخلت في صراع مع متطلبات الكنيسة التي كانت تشق طريقها في العالم. ويشير في هذا الخصوص إلى الدور الذي لعبه توما الإكويني في إعادة إحياء نظرية المجتمع المدني لدى أرسطو بوصفه جماعة منظمة سياسيا مبنية على منطق متميز لأنظمة الخلق المختلفة، غير ان الأفكار التي تدور حول مجتمع مدني متشكل دينيا لن يكتب لها البقاء طويلا.
ثم يقدم لنا المؤلف رؤية تفصيلية بشأن الانتقال التدريجي إلى التصورين الحديثين عن المجتمع المدني حيث حفزت الأنظمة الملكية المركزية ظهور نظريات حديثة متميزة حول السلطة والشرعية والسيادة.
فانعكست غاية المحاولات الكلاسيكية والقروسطية للتنظير للمجتمع المدني بمصطلحات كلية على إقرار نيكولاي ميكيافيليي بأن تراث النزعة الجمهورية المدنية في روما مكن الإمبراطورية من تحويل الصراع إلى استقرار ولكن انشغال المفهوم بالانهيار السياسي صعب عليه مهمة التنظير في مجال العمل الخيري.
وفي ذلك السياق يشير إلى أن المجتمع المدني لدى هوبز كان شيئا مختلقا لأغراض البقاء، ولكن سلطة صاحب السيادة التأسيسية هي التي تتيح الاستفادة من منافع الحضارة فالعدالة والمبدأ الأخلاقي والثقافة والفن والعلم اعتمدت على قدرة الدولة على تشكيل مجتمع مدني يتيح للناس الانصراف إلى أعمالهم بأمن وسلام.
ثم يتطرق إلى رؤية جون لوك للمجتمع المدني الذي مؤداه أنه ذاك الذي تشكله الملكية والإنتاج والاكتساب يستلزم دولة يحكمها القانون لحفظ النظام وحماية الحرية فالمجتمع المدني يعني إمكانية عيش الناس ضمن شروط الحرية السياسية والنشاط الاقتصادي.
أما كانط فقد ذهب الى أن هذا المجتمع يعد ميدانا محميا يمكن الناس من اتخاذ قراراتهم ضمن شروط الحرية، فالميدان العام الحر والعدالة والإجراءات المطبقة بالتساوي والحريات المدنية الواسعة والمؤسسات الجمهورية الشرعية تؤسس الجمهورية وتدفع إلى السعي وراء المصالح الفردية نحو الصالح العام.
أما عند هيجل فقد كان المجتمع المدني يسكنه الإنسان الاقتصادي وكانت مصالح هذا الإنسان الخاصة هي التي تشكله وكان ميدانا للفعل الخلقي فثمة شبكة من العلاقات الاجتماعية تقوم بين العائلة والدولة، فتربط الأفراد المنكبين على مصالحهم الذاتية أحدهم بالآخر في ميدان وسيط من الروابط الاجتماعية والحرية الخفية.
غير أن مجتمع هيجل المدني فشل في تحقيق درجة الحرية القصوي لأنه لم يستطع حل مشكلة الفقر الثانية وانتهى إلى مذهب رجعي يرى أن دولة بروسيا البيروقراطية بمقدورها حل النزاعات الاجتماعية.
ويشير المؤلف إلى أن التراث الفكري الحديث الذي يتصور المجتمع المدني ميدانا يتشكل عبر الإنتاج وما يرافق ذلك من علاقات اجتماعية وسياسية والذي أوصله ماركس إلى نهاية مطافه، لم يكن من حيث المبدأ عدائيا تجاه الدولة لأن تصوره للمجتمع الحديث أثار سؤالا ملحا حول كيفية إخضاع ميدان تنافسي مشوش لإشراف عام.
وينتقل بنا المؤلف إلى كيفية التنظير للمجتمع المدني في الخطاب السياسي المعاصر عبر التركيز على تجربة أوروبا الشرقية. ويشير إلى أن القيود الدستورية على سلطة الدولة في الولايات المتحدة سحرت المنشقين الأوروبيين الشرقيين بشدة.
ومن ثم يعرض التسلسل الزمني لنمو النظرة التوكفيلية الجديدة المسيطرة على المثقفين الأمريكيين والتي تفيد أن المجتمع المدني يقيم مجموعة من المعايير غير الرسمية لدعم التجمعات المحلية الوسيطة. وقد طور البعض ومنهم يورغن هابرماس البحث في كيفية قيام نشاط ثقافي قوي بتحديد قدرة المجتمع المدني على إنجاز الوظيفة التوسطية التي اقتضتها منه النظرية التوكفيلية الجديدة.
ويختم المؤلف بالتأكيد على أنه إذا كان على المجتمع المدني أن يؤدي دوراً ما في النظرية الديمقراطية المعاصرة، فستقوم الحاجة إلى إعادة صياغته تصوريا واغنائه وتهيئته لشروط العالم الواقعي الملموسة، مضيفا أن ثمة تقليد فكري مهم يمكنه مساعدتنا على الإمساك بممكنات أنماط التفكير الحالية وحدوده كلما توغلنا في مستقبل تستلزم فيه العدالة الاقتصادية والديمقراطية السياسية الشيء الكثير وليس القليل من الدولة.
لمحة عن المؤلف
أستاذ العلوم السياسية في جامعة لونغ أيلاند في أميركا وناشط في الحقوق المدنية ومناهضة الحروب له كتابات كثيرة في الماركسية والفكر الديمقراطي وتاريخ النظرية السياسية ومن بين كتبه «خدم الثروة» وكذلك «ديكتاتورية البروليتاريا: النظرية الماركسية حول الديمقراطية الاجتماعية»، وكتاب «براودهون (فيلسوف فرنسي) وعصره والمجتمع المدني».
كما نشر العديد من المقالات في مجلات علمية وتم ترجمة أعماله إلى اليابانية والكورية.. وقام على ترجمة الكتاب د. علي حاكم صالح وهو أكاديمي ومترجم عراقي متخصص في الفلسفة الحديثة ود. حسن ناظم وهو كذلك أكاديمي ومترجم عراقي متخصص في النظرية النقدية والأدب الحديث.
الكتاب: المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة
تأليف: جون إهرنبرغ
الناشر: المنظمة العربية للترجمة بيروت 2008
صفحات: 509 صفحات
القطع: المتوسط