الواقعة والمعنى… تمهيد لفلسفة الخيبة

2025-02-11

صدرت الترجمة العربية لمصنف الفيلسوف اللبناني بولس الخوري: «الواقعة والمعنى: تمهيد لفلسفة الخيبة» للباحث والمترجم المغربي المهدي مستقيم والباحث والمترجم اللبناني باسل بديع الزين، وهو مصنف غاية في الأهمية، إذ لا ينفكّ يطرح أسئلة من قبيل: هل بمكنة الكائن البشري أن يبلغ مقام المطلق؟ كيف لكائنٍ بشريّ قوامه النّقص أن يُحيل ذاته ذاتاً مطلقةً؟ هل تقوى الكائنات البشريّة التي يعود لها الفضل في تَكَوُّن النّوع البشريّ في كليّته على تهيئة مسالك الارتقاء الأنطولوجي إلى مقام المطلق؟ لن يؤدي بنا استبعاد هذا الاحتمال، حسب بولس الخوري إلا إلى وضع حدّ لرهان بلوغ الحريّة المنشودة؛ ونقصد مقام الكائن في كليّته، مقام الكينونة. وسيكون لزاما علينا من ثم، مباشرة النظر في الكائن البشريّ، بوصفه كائنا غير مكتمل على الدّوام، أو بما هو كائن يستعصي على الاكتمال، كائن يسعى دائما إلى ذاته وكينونته.
يرى بولس الخوري في هذا المصنف، أنّ الإنسان يسلك في هذا العالم ويسعى سعيا حثيثا من دون أن يظفر بما يبتغيه، ويجتهد ويكابد ما يكابد من دون أن يفوز بما يطمح إليه، فلا يبقى أمامه سوى معانقة خيبته، لاسيما أن الواقع البشريّ الذي يبدو مناسبا تارة وغير مناسب تارة أخرى، لا يوافق انتظاراته. فالمسافة التي تفصل الذات عن موضوعها المنشود ما تزال قائمة، وهي لعمري المسافة التي تحول دون تحقيق الذات لاكتمالها الخاص. ومن أجل ذلك، يعتري الذات وهم يحملها على الاعتقاد بوجود ما تتطلع إليه في عالم مفارق خارجي، في حين أنه يركن في كيانها الخاص. إن وعي الذات بهذا الأمر هو سبيلها الوحيد من أجل تحقيق اكتمالها واتساقها وتقوية مناعتها، ذلك أنّ إبداء الذات لضرب من العوز إلى الأشياء أو إلى الآخرين، إنما ينم عن عوز أعمق ينخر ذاتها، ونقصد العوز الذي يولّد في أعماق الكائن البشري الخواء الأعظم، العوز الذي يمنع الذات من أن تكون ذاتها في ملء كيانها، العوز إلى الكينونة.
لا ريب في وجود اختلاف واضح بين الواقعة والمعنى في مستوى الظاهر، ومردّ هذا الاختلاف إلى كون المعنى، كما هو الحال بالنسبة للمثال، لا يني يظهر ويختفي (موجود وغير موجود) في الواقع في آن. ويتضح هذا الخفاء والتجلي أكثر ما يتضح، حسب بولس الخوري، في الانتظار ضمن تجربة الخيبة، إذ يحيل الانتظار على تطلع الإنسان وترقبه لما يوجد من جهة، وعلى اقتداره على خلق عالمه ووضعيته وكيانه من جهة أخرى، الأمر الذي ينطوي على نزوع يرمي إلى تحويل الحقيقة الإنسانية من الواقعة إلى المعنى، من الممكن إلى المأمول: «فالواقع يسعى إلى أن يصير معنى كي يكون معقولا.. والمعنى يسعى إلى أن يصير واقعا كي يكون واقعيّا وحقا».
تتغذى الرغبة الأنطولوجية الْمُلحّة لدى النسبي في بلوغ مقام المطلق، من التباعد الأنطولوجي صارخ بين المتناهي (النسبي) واللامتناهي (المطلق)، لذا يلفي الكائن الإنساني – فردا وجماعة – نفسه مطالبا بضرورة مطابقة واقعته مع معناه. إنه المسلك الوحيد المتبقي أمامه من أجل درك حريته أو كليته أو كينونته، ذلك أنّ «الكائن الإنساني هو بالضرورة غير مكتمل.. إنه يسعى دوما إلى ذاته، أي إلى أن يكون بالملء». يعجز الإنسان/ الفرد عن مطابقة واقعته بمعناه، نتيجة التعارض الحاصل لديه بين نرجسيته ومجموع الإشراطات والضرورات التي تحيط وجوده الواقعي من محددات طبيعية ونفسية واجتماعية وثقافية وتاريخية. أما الإنسان/ الجماعة فيعجز عن مطابقة واقعته بمعناه، نتيجة انتقال عدوى النرجسيَّة الفردية إلى الجماعة (النرجسية الجماعية)، الأمر الذي أدى إلى انبجاس المفاضلة بين العصبيات، إذ بات كل شعب يرى في نفسه الشعب المختار والمصطفى والمنذور لتحقيق الخلاص، ما يؤدي إلى نشوب صراع الطوائف والقوميّات. إذ ترمي كل قومية إلى امتلاك سبل الخلاص (المطلق) من دون أن تحظى باقي القوميّات بنصيب فيها. غير أنّ عدوى النرجسية لا تكتفي بالجماعة والقوم، بل تمتد لتشمل نطاق الإنسانية كاملة، «حيث يتكون الاعتقاد بمركزية الإنسان في الكون، وبحق الإنسان في السيطرة على عناصر الطبيعة ومقوماتها وطاقاتها». إنّ تفشي هذه النرجسيّة في شتى مناحي الوجود الإنساني لا يمنعها من تبديد واقع تعدُّد الأفراد والجماعات، كما لا يمنعها من تبديد واقع تماهي الكون والإنسان.
يؤدي بنا القول باستحالة تطابق الواقع والمعنى، إلى القول باستحالة تحقق الحرية الإنسانيَّة في كليتها، إذ لا يمكننا أن نصرف نظرنا عن الحتميات الطبيعية، والنفسية، والاجتماعيّة، التي تحول بين الإنسان وتحقيق كماله، ونعني أن عجز الإنسان عن درك حريته المطلقة (تطابق الواقعة والمعنى) إنما يحول دون درك اكتماله الكياني، ذلك أنّ الكمال «بمثابة مشروع يسعى إلى تحقيقه، لكن من دون أن يكون في مقدوره إتمام هذا المشروع». هكذا، تتمثل الحقيقة الإنسانيَّة في تلك الواقعة التي تتطلَّع إلى درك معناها المنفصل عنها انفصالًا كاملًا، والماثل فيها مثول المحرّك أو المحفّز قصد تحقيق التطابق معها. الأمر الذي يُغذّي شغف الحقيقة في درك المطلق، ووضع حد من ثم لانتظارها الأنطولوجي. ما الذي يمنع الإنسان من إتمام اكتماله على نحو فوري؟ لماذا يجد نفسه مرغما على المرور عبر بوابة العالم من أجل بلوغ ما بعد العالم؟ أليس بمكنته تحقيق اكتماله بتجاوز سلطة الزمان؟ ثمة أجوبة دينية تستبعد العقل وتستدعي الاعتقاد والإيمان، وثمة أجوبة ما ورائية تصرف نظرها عن الواقع وتجد ملاذها الأخير في التنظير، وثمة أجوبة واقعية تكتفي بالواقع الإنساني، وتتجنب ما أمكن ما يوجد وراءه. آثر بولس الخوري، أن يسلك مسالك الواقع، من خلال تشييد فلسفة للخيبة تهادن اللايقين وتجابه العبث ببسمة قوامها الحكمة، إذ يعمل النظر في الكائن البشري بوصفه كائنا لامحددا Apeiron شأنه شأن باقي الكائنات، كائن لا يملك أن يتوقف عن الركض صوب العدم، صوب ما لا قعر له Abyssos . فإذا كان المطلق هو اللّامحدد وإذا كان الإنسان يصدر عنه، فمن الطبيعي أن يرغب في إدراكه.
توضيحا لهذا الإشكال خاض المهدي مستقيم وباسل بديع الزين، غمار ترجمة هذا المصنف الذي يسائل مأساة الإنسان الأنطولوجية المجاوزة للهويات والتراث والثقافات على نحو موسوعيّ، من خلال استدعاء الفكر اليوناني القديم بلسانه الإغريقي، والفكر الغربي الوسيط بلسانه اللاتيني، والفلسفة الألمانية الحديثة والمعاصرة بلسانها الجرماني، فضلا عن اللاهوت والتاريخ وعلم النفس والأنثروبولوجيا والأدب، إلخ. وقد حرصا في ترجمتهما على اتباع مساك النّقل والتصرّف (تبعا لما يقتضيه المقام والمقال) من جهة، والقراءة والتأويل من جهة أخرى، تجنّبا للوقوع في مثالب التّرجمة الحرفية أو الاستعراب الذي يستخف بالنص ويفرغه من هويته وحمولته.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي