وسط منطقة «الأناضول» التركية، تقع «كابادوكيا»، تلك المدينة التي نحتتها الطبيعة، وأبدعت فيها يد الإنسان. ويكفي أن يكون لديك بعض الهوس بالمدن القديمة وتاريخها؛ لتقع في حب هذه المدينة، التي انفجرت من بركان ثار قبل ملايين السنين، فقامت الطبيعة بصقل تضاريسها مبدعة مشاهد أسطورية، تثير الدهشة. هنا، تلتقي الصخور الجرداء بلمسة الإنسان العبقرية، حيث أبدع في تحويل تضاريسها إلى مدن مخفية تحت الأرض، فأصبحت «كابادوكيا» لوحة حية نابضة بالحياة.
مجلة «زهرة الخليج» زارت مدينة «كابادوكيا»؛ لتأخذكم في رحلة لاكتشاف هذه الطبيعة المتفردة، وتقديم نظرة عميقة عن تاريخها وثقافتها وعجائبها، التي تسحر الزائرين.
«أرض الخيول الجميلة»
عُرفت «كابادوكيا» بأسماء عدة عبر التاريخ، وكــــــان الفُرس يســــمونها «كتباتوكا»، ويُعتقد أنه يعني «أرض الخيول الجميلة». لم يكن هذا الاسم مجرد لقب؛ فقد كانت «كابادوكيا» فعلاً موطناً لتربية الخيول، وتفخر بإرث عريق في هذا المجال، حيث كانت الخيول جزءاً من حياة أهلها، ورمزاً للقوة والجمال. كما وردت أسماء أخرى لـ«كابادوكيا» في المصادر القديمة؛ فذكرتها اللغة «العيلامية» باسم «كابتا»، وعند الأكاديين كانت تُعرف باسم «توكا»، ما يعكس التنوع الحضاري واللغوي في تاريخها.
حضن التاريخ
يتجلى سحر «كابادوكيا» في قرية «تشافوسين»، التي تتميز بمنازلها وكنائسها المنحوتة في الصخر، وجدرانها المزينة بفسيفساء دقيقة التفاصيل. و«تشافوسين» ليست مجرد قرية؛ إنها حكاية تروي تاريخ «كابادوكيا» العريق، وتطل على مشهد ساحر من المداخن الأسطورية، وتكوينات الصخور التي تأخذ العقل. وتعد كنيسة «تشافوسين»، العائدة إلى القرن الخامس، من المعالم التاريخية الفريدة، حيث تحمل في طياتها تفاصيل مذهلة، تعكس إبداع الفن المعماري خلال تلك الفترة.
الطبيعة تروي قصصاً
يأخذك وادي «زلفي»، الذي يُعد متحفاً مفتوحاً، في رحلة عبر الكهوف والمساكن والكنائس المنحوتة في الصخور، ويمتاز بإطلالات بانورامية على تضاريس «كابادوكيا». في المقابل، يشتهر وادي «باشا باغ» بالمداخن الأسطورية ذات القمم التي تشبه القباب، والتي كانت تُستخدم قديماً كمساكن. هنا، تتجلى الطبيعة في أبهى صورها، حيث تتشكل الصخور في تكوينات فريدة، تحمل في ثناياها حكايات الأجيال.
جوهرة «كابادوكيا»
مدينة «جوريم»، بفضل تشكيلاتها الصخرية المذهلة، وكهوفها السكنية، تعتبر القلب النابض لـ«كابادوكيا». فقرب «جوريم» من مواقع طبيعية ساحرة جعلها وجهة سياحية استثنائية. كما أدرجتها منظمة «اليونسكو» ضمن مواقع التراث العالمي، ما يعكس أهمية المدينة، وجمالها المتفرد. وتوفر وديان «جوريم» مناظر خلابة على طول مسارات التنزه والتصوير، حيث تمتلئ الحقول بمزارع الكروم، التي تشكل مناظر خلابة.
برج مراقبة طبيعي
تقف قلعة «أوشيسار» شامخة كأعلى نقطة في «كابادوكيا»، مانحة الزائرين مشهداً بانورامياً يأسر القلب. فهذه القلعة التاريخية، المنحوتة في صخرة بركانية ضخمة، كانت حصناً طبيعياً يحمي السكان الأوائل. ومن هنا، يُمكنك رؤية مناظر تحبس الأنفاس، لتكون شاهداً على عظمة المنطقة، وتاريخها الطويل.
وجهتان أسطوريتان
تشكل «أوج غوزيل» (ثلاثية الجمال)، ووادي «ديفرينت»، المعروف بـ«وادي الخيال»، نقطتين بارزتين لعشاق الطبيعة الساحرة. وتتميز «أوج غوزيل» بمداخنها الأسطورية الثلاث، التي تُعتبر من أكثر المشاهد تصويراً. أما وادي «ديفرينت»، فيأخذ الزائر في رحلة خيالية، حيث تتشكل الصخور لتشبه تماثيل، أو حيوانات خيالية، ما يدعو المخيلة إلى الانطلاق بلا قيود.
مدينة تحت الأرض
مدينة «كايماكلي»، الواقعة تحت الأرض، من أضخم المدن المحفورة في الصخور البركانية، وتمتد عبر أنفاق، وغرف، ومداخن تهوية، تضمن العيش لمئات السكان في بيئة متكاملة. والمدينة ليست مجرد كهوف؛ فهي مجتمع كامل، يُعبّر عن عبقرية التصميم والتخطيط؛ لتوفير كل ما يلزم لحياة متكاملة تحت الأرض.
نسيج تاريخي غني
وتتميز «كابادوكيا» بتراثها الغني والمتنوع، حيث كانت - على مر العصور - مركزاً للحضارات الكبرى؛ من الحيثيين إلى الفرس، مروراً بالرومان والسلاجقة، وصولاً إلى العثمانيين. وهذه الحضارات جميعها تركت بصمتها في «كابادوكيا»، ما جعلها متحفاً حياً، يحكي قصة هذه المنطقة الاستثنائية.
مغامرات في الهواء
واحدة من أكثر التجارب المذهلة التي تقدمها «كابادوكيا»، هي القيام برحلة بمنطاد الهواء الساخن فوق تضاريسها التي تشبه الحلم. تخيل أنك تطفو - بصمت - فوق «المداخن الخيالية»، وكروم العنب، والبساتين، مع شروق الشمس؛ لترسم السماء بألوان: الوردي والبرتقالي والأحمر. وهذه هي المغامرة «الكبادوكية» المثالية، وبالنسبة للكثيرين، هي أهم ما يميز زيارتهم. وتوفر المناظر البانورامية من البالونات مشهداً لا يوصف لعظمة المنطقة، فهي بمثابة ملاذ هادئ من الانشغال بالحياة اليومية.
مطبخ محلي
يشتهر مطبخ «كابادوكيا» بمأكولاته الفريدة، التي شكلتها الثقافات المختلفة، التي سكنت المنطقة. ويتم إعداد الأطباق، غالباً، بطرق تقليدية ومكونات محلية، ما يوفر مذاقاً فريداً، مثل «كابادوكيا» نفسها. ويتم طهي اللحوم ببطء في آنية فخارية، ويصنع الخبز في أفران حجرية، ويتم تحويل المنتجات الطازجة في المنطقة إلى مجموعة متنوعة من الوجبات الشهية. وتشمل الأطباق المتميزة: «تيستي كباب»، حيث يتم طهي اللحوم والخضروات في وعاء فخاري مغلق؛ للحفاظ على جميع النكهات والعصائر. و«مانتي»، وهو نوع من الزلابية التركية، التي يتم تقديمها مع الزبادي والتوابل. وتناول الطعام في «كابادوكيا» لا يقتصر فقط على التجربة، بل يحظى بمزيج من الأذواق المذهلة، والأجواء التقليدية الرائعة.
حَرِفٌ يدوية
تعتبر «كابادوكيا»، أيضاً، كنزاً من الحرف اليدوية التقليدية. ويشتهر الحرفيون في هذه المنطقة بمهارتهم في صناعة الفخار المرسوم يدوياً، والهدايا التذكارية من العقيق والسجاد المعقد. وتقع مدينة «أفانوس» في «كابادوكيا» المشهورة بصناعة الفخار، على ضفاف نهر «كيزيليرماك»، الذي يوفر الطين الأحمر المستخدم في الإنتاج. ويمكن للزوار مشاهدة الخزافين وهم يشكلون الطين في أعمال فنية جميلة، وربما يجربون بأيديهم صياغة قطعهم الخاصة. وتبيع أسواق المنطقة ومحالها، أيضاً، المنسوجات والسلع الجلدية والمجوهرات، التي تعكس التراث الثقافي الغني للمنطقة.
دعوة للمغامرة
لعشاق الهواء الطلق، توفر وديان «كابادوكيا»، بتكويناتها الصخرية غير العادية، وكهوفها المخفية، فرصاً لا حصر لها للمشي لمسافات طويلة، وركوب الخيل، والدراجات الجبلية. وتنطلق الممرات عبر المناظر الطبيعية الشبيهة بالقمر، وتؤدي إلى مناطق منعزلة، ما يوفر اتصالاً أعمق بالبيئة الطبيعية. وسواء كنت تبحث عن نزهة ممتعة، أو رحلة مليئة بالتحديات، فإن «كابادوكيا» لديها طريق يناسب كل مستويات المغامرة. وبالإضافة إلى المسارات، تقدم المنطقة أنشطة، مثل: جولات الدراجات الرباعية، التي يمكن أن توفر وسيلة مليئة بـ«الأدرينالين»؛ لاكتشاف جمال الريف الوعر. وتبدو الوديان، والمداخن الخيالية، مختلفة من كل زاوية، وتتيح رياضات المغامرة المتوفرة في «كابادوكيا» للمسافرين تجربتها من جميع الاتجاهات.
وجهة للتصوير
بفضل مناظرها الطبيعية الخلابة، أصبحت «كابادوكيا» وجهة مفضلة لصانعي الأفلام، والمصورين. فالعديد من الأفلام والمسلسلات تم تصويرها هنا، ما يجعل مناظرها الخيالية جزءاً من ذاكرة السينما العالمية.
فنادق الكهف
واحدة من أكثر التجارب فرادة، التي تقدمها «كابادوكيا»، هي فرصة الإقامة في فندق الكهف، فقد تم تحويل العديد من مساكن الكهوف القديمة إلى أماكن إقامة «بوتيكية»، تمزج السحر التاريخي بوسائل الراحة الحديثة. وتوفر هذه الفنادق فرصة العمر للنوم في غرفة منحوتة بالصخر، تماماً كما فعل القدماء، ولكن مع ترف وسائل الراحة المعاصرة. وتتنوع فنادق الكهوف في «كابادوكيا»، من الريفية إلى الفخمة، ويضم بعضها شرفات تتمتع بإطلالات بانورامية. والغرف في هذه الفنادق معزولة طبيعياً، وتكون باردة صيفاً، ودافئة شتاءً، كما أن هندستها المعمارية المميزة تجعل إقامتك بها لا تُنسى. ولا يعد اختيار فندق الكهف وسيلة للمغامرة فحسب، بل هو أيضاً وسيلة للانغماس في تراث المنطقة.