
كان يمكننا فهم مدى توجه نتنياهو لعقد الاتفاق من خلال أبواقه التي اندفعت بصخب التشجيع والتفسير والتحليل والمقالات المنمقة عن “فضائل الاتفاق”.
بعد الظهر، غرد أحد المراسلين السياسيين عن معارضة شديدة في الجناح اليميني من الائتلاف لـ “اتفاق ديرمر”. أتفهمون؟ إلى أن تتضح الصورة، فهذا “اتفاق ديرمر”. حذار أن يذكر نتنياهو. سيكون هذا اتفاق نتنياهو، في اللحظة التي نكون فيها واثقين من نجاحه.
وإذا لم ينجح الاتفاق لا سمح الله؟ فسجلوا: إنه ديرمر. رون ديرمر. إذا كان الفشل ذريعاً، فترقبوا عنواناً في القناة 14 بصيغة: “ديرمر أخفى عن نتنياهو بنوداً في الاتفاق”.
وبين الأبواق ما هو صافٍ، من جملة أولئك غير المستعدين لتحمل مخاطرة ما إذا كان الاتفاق سينجح أم لا، وبدأوا الآن يبسطون مظلة الدفاع. يعقوب بردوغو هو أدناهم؛ فقد ادعى أمس بحماسة أن الاتفاق تحقق بسبب ضغط رئيس الأركان. إنه هرتسي، وليس بيبي. فقد أقال بيبي غالانت بدعوى أنه انهزامي وانبطاحي ويريد إيقاف الحرب في لبنان. أتذكرون؟ حصل هذا قبل أسبوعين. وها هو، بعد أن أقال غالانت، يوقع فوراً على اتفاق. إذن، هرتسي هاليفي هو الذي يسحب بيبي من أنفه!
مسكين بيبي. كيف يصمد أمام كل هذا؟ فهو لا يريد إلا الخير. يريد أن يصل إلى بيروت، ويفكك حزب الله، ويرفع علم “لا فاميليا” في الضاحية. لكن “هم” لا يسمحون له. فعل الشيطان، هناك دوماً من يضغط عليه، يخفي عنه، يقصيه، لا يوقظه، لا يطلعه، لا يشد طرف لباسه أو يضلله. دوماً. إلا إذا كان الحديث يدور عن نجاح.
لا حاجة لكثير من الخيال لعرف ما سيحصل إذا ما جاء بهذا الاتفاق، لا سمح الله، يئير لبيد أو، ومعاذ الله، نفتالي بينيت. في “قائمة الفضائل” التي لا تنتهي والتي نشرها يانون مغيل أمس، لن تتغير إلا كلمة واحدة “فضائل” ويستبدل بها “نواقص”.
من أين أعرف؟ أولاً؛ لأن هذا ما صرحوا به على اتفاق جيد أكثر بكثير، وقعت عليه حكومة بينيت – لبيد، اتفاق الغاز مع لبنان. اتفاق لم تسلم إسرائيل شيئاً ولم تتنازل عن أي شيء. المساحة البحرية التي تلقاها لبنان تبين أنها نظيفة تماماً من الغاز الطبيعي. مياه بحر ليس إلا. المساحة التي اعترف بها لبنان بسيادة إسرائيلية مليئة بحقول الغاز الطبيعي. ربح صافٍ. وعلى هذا الاتفاق صرخوا، صرخوا وتلفظوا بالهراء لسنتين. عادوا إلى الحكم، ولم يلمسوه، ولم يلغوه، ولم يعيدوا النظر. لم يفعلوا شيئاً، للسبب البسيط: يعرفون أنه اتفاق جيد.
السبب الثاني الذي يجعلني أؤمن بأن نتنياهو كان سيتهجم على هذا الاتفاق بعصف شديد لو كان في المعارضة، أن فيه غير قليل من النواقص: لا توجد منطقة فاصلة تضمن سلامة وأمن مواطني الشمال؛ كل سكان القرى في جنوب لبنان يعودون إلى بيوتهم، بعض منهم أناس حزب الله. سيعودون إلى بيوتهم مع حزب الله؛ بند الإنفاذ من قبل الجيش الإسرائيلي لا يتضمنه الاتفاق. هو موجود في نوع من التوافق الجانبي مع الأمريكيين. لا أحد يعرف كيف سيحصل هذا على الأرض؛ يقوم الاتفاق على أساس إنفاذ الجيش اللبناني. كل من يعرف الجيش اللبناني ويفهم الوضع في لبنان، يعرف أنها نكتة. وهكذا دواليك.
وعليه، أعرف بأن نتنياهو كان سيمزق هذا الاتفاق إرباً لو كان في المعارضة، وأشعلت أبواقه الشوارع. لكنه الآن رئيس الوزراء.
بين الخيارات التي تقف أمامها إسرائيل، هذا الاتفاق هو الخيار الأقل سوءاً. أفهم ألم سكان الشمال وقلقهم. هم الذين دفعوا الثمن وهم الذين سيدفعونه في المستقبل أيضاً. اليوم أيضاً، رغم الأقوال والوعود، فإن المساعدة الموعودة لهم تراوح مكانها. جهاز التعليم لديهم معطل تماماً منذ أسبوع، حتى في البلدات التي لم تخل. لجنة التعليم في الكنيست تعنى هذا الأسبوع بتخليد الحاخامين دروكمان وعوفاديا. أما سكان الشمال فتُركوا لمصيرهم.
غير أن الاتفاق حيوي على المستوى الاستراتيجي. فقد حققت إسرائيل في هذه الحرب إنجازات هائلة، لا توصف. ما كان أحد ليحلم بها قبل بدء الحرب. وجه حزب الله مرغ في التراب، وضرب ركبتاه بصدمة، وفقد سلسلة قيادته العليا، وسلسلة القيادة العملياتية والقيادة الصغرى، وتم قتل 3 آلاف مخرب، ودمرت بناه التحتية، قسم مهم من مخزون الصواريخ دمر، وقدرة الإطلاق تضررت بشدة، والضاحية مدمرة، ومجلس الشورى ونصر الله أطلقوا إلى السماء، وقدراته الاستراتيجية سُحبت، وهكذا دواليك.
كان يمكن النزول من هنا. فالشتاء على الأبواب، والمراوحة اللبنانية معروفة لنا جيداً، وإيران لا تزال جبهة مفتوحة، والنووي لا يزال هناك، وهناك 101 مخطوف في غزة، والجيش تعب ومتآكل، و”النظاميون” منهك، و”الاحتياط” ممزق، وثمة حاجة للانتظام، للراحة، للتسلح، وإغلاق جبهات مفتوحة للتركيز على الأمر الحقيقي.
ما لا يمكن تفسيره، أن حكومة “اليمين بالكامل” مستعدة لغلق الجبهة الشمالية، التي يكمن فيها العدو القوي، وذلك من دون ترتيبات أمنية حقيقية أو منطقة فاصلة أو نصر مطلق، بينما الجبهة الجنوبية التي هي في وضع أفضل لنا بكثير وبعدو أكثر ضعفاً، تصر الحكومة على إبقائها!
حسناً، هذا ليس سراً: بن غفير وسموتريش لن يسقطا الحكومة على الاتفاق مع حزب الله، لكنهما سيسقطانها إذا تم الاتفاق مع حماس. هذه الحقيقة المريرة، غير المفهومة، الرهيبة جداً، الحقيقة التي تفرغ يهوديتنا من المضمون وتتعارض مع كل القيم التي قامت عليها إسرائيل.
بن كسبيت
معاريف 26/11/2024