رغم تصاعد التلاسن بينهما في الأسابيع الأخيرة على خلفية تصريحات للرئيس الفرنسي بشأن الحرب في غزة ولبنان، إلا أن التزام إيمانويل ماكرون الصمت التام حتى الآن حيال مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، يثير الكثير من التساؤلات.
في مواجهة مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالانت، بدت فرنسا الرسمية في حالة من الحرج، إذ لم يدلِ قصر الإليزيه حتى الآن بأي تعليق رسمي، فيما اكتفت الخارجية الفرنسية بتصريحات تغلب عليها الضبابية حيال اتهام نتنياهو وغالانت باعتبارهما متورطين في ارتكاب “جرائم حرب تتمثل في استخدام التجويع كوسيلة للقتال”، و“المشاركة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية مثل القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية”.
يُفترض الآن أن يتم القبض على نتنياهو وغالانت إذا وطأت قدماهما أرض إحدى الدول الـ124 -بما في ذلك فرنسا- الموقّعة على نظام روما الأساسي، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية في عام 1998. لكن واقع الحال عكس ذلك بالنسبة لفرنسا الرسمية انطلاقا من موقفها حتى الآن. فمنذ إعلان المحكمة الجنائية الدولية، بدا وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو محرجاً، حيث قال يوم الأحد في تصريح لقناة فرانس 3: “إن فرنسا متمسكة جدا بالعدالة الدولية ومتمسكة جدا بقدرة الجنائية الدولية على العمل باستقلال تام.. أصدرت المحكمة مذكرة اعتقال تمثل إضفاء الطابع الرسمي على اتهام ضد مسؤولين إسرائيليين معينين”.
لكن عندما سُئل عما إذا كان نتنياهو سيتم اعتقاله في حالة زيارته فرنسا، رد الوزير بارو: “ستطبق فرنسا دائما القانون الدولي”، دون أن يحدد جوهر موقفه أو أفكاره، خلافا مثلا لوزير الدفاع الإيطالي الذي قال بوضوح إن بلاده “ستضطر إلى توقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه السابق ” في حال دخلا أراضيها.
كما أن موقف باريس الضبابي هذا يتناقض مع الموقف الذي اتخذه الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل، الذي سارع إلى التشديد وبشكل واضح على وجوب “احترام وتنفيذ أوامر التوقيف” الصادرة عن الجنائية الدولية.
من بين الدول الموقّعة على نظام روما الأساسي، وخلافا لفرنسا، رحب البعض بمبادرة محكمة لاهاي، مثل أيرلندا، التي تحدثت على لسان رئيس وزرائها، سيمون هاريس، عن “أهمية بالغة”. وأعلنت دول أخرى، مثل بلجيكا والنرويج وهولندا، على الفور أنها ستلتزم بقرارات المحكمة الجنائية الدولية.
رداً على موقف باريس هذا، قالت بينيديكت جينرود، مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش غير الحكومية في فرنسا: “فيما يتعلق بمذكرات الاعتقال الصادرة عن الجنائية الدولية، ينبغي لفرنسا أن تذهب إلى ما هو أبعد من البيانات العامة الداعمة للمحكمة والعدالة الدولية، وينبغي لها أن تقول صراحة إنها ستنفذ مذكرات الاعتقال -كما هو مطلوب من جميع أعضاء المحكمة الجنائية الدولية القيام بذلك- وأن تدين صراحة الجرائم التي ترتكبها السلطات الإسرائيلية في غزة على حقيقتها: جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.
صحيفة “لوموند” اعتبرت أن هناك سببين وراء حرج السلطات الفرنسية حيال مذكرات التوقيف بحق المسؤولين الإسرائيليين. ففي الرئاسة الفرنسية كما في الخارجية، يعتبرون أولا أنه لا يجوز فقدان الاتصال مع السلطات الإسرائيلية.
الصحيفة الفرنسية، نقلت عن الدبلوماسي السابق دينيس بوشار، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، قوله: “سياسة فرنسا متعاطفة إلى حد ما مع إسرائيل، على الرغم من تصلبها على مدى الأشهر الماضية. لا يريد الإليزيه القطيعة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يعتبر دائما محاورا للتوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة أو في لبنان، وأساسيا في جميع القضايا الإقليمية، بدءا بالاستيطان في الضفة الغربية. وعليه، ستبقى فرنسا غامضة، مع تجنب دعوة نتنياهو وغالانت حتى لا تضطر إلى تطبيق قرار المحكمة الجنائية الدولية”.
في هذه القضية، الضغوط الإسرائيلية مستمرة، وتمارس بشكل خاص على المسؤولين الفرنسيين. فقد وصف نتنياهو القرار الذي اتخذ ضده بأنه “معادٍ للسامية”. وكان وزير الخارجية الفرنسي قد أجرى مكالمة وصفت بالـ“متوترة” من نظيره الإسرائيلي جدعون ساعر، عندما تحدث يوم الخميس الماضي عن وصف القضية بأنها “معقدة من الناحية القانونية”.
في الأيام الأخيرة، انتشرت شائعات أيضاً مفادها أن إسرائيل سترفض، بسبب الخلاف حول المحكمة الجنائية الدولية، مشاركة فرنسا في اللجنة الدولية المسؤولة عن الإشراف على تنفيذ وقف إطلاق النار المحتمل في لبنان. وهذا الموقف الإسرائيلي، رأت مصادر فرنسية أنه مرتبط بلا شك بموقف فرنسا بشأن مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.
مع ذلك، فإن فرنسا ليست على ما يبدو الدولة الوحيدة التي تشعر بالحرج على أقل تقدير. حيث يخيم الحذر والحرج أيضا على موقفي ألمانيا والمملكة المتحدة، على عكس الولايات المتحدة التي وصف رئيسها جو بايدن مذكرات الاعتقال بأنها “فاضحة”. لكن الولايات المتحدة ليست طرفا في المحكمة الجنائية الدولية. وهذه الخلافات قد تؤدي إلى تعقيد أي بحث عن موقف مشترك بشأن هذه القضية الحساسة خلال اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع اليوم الثلاثاء في إيطاليا.
صحيفة “لوموند”، اعتبرت أيضا أن هناك سببا قانونيا آخر يمكن أن يفسر الموقع الغامض لباريس، حيث يدور جدل بين الحقوقيين حول الحصانة التي يمكن أن يستفيد منها زعماء على رأس دول غير موقعة على نظام روما الأساسي، مثل إسرائيل أو الولايات المتحدة أو روسيا. ونقلت الصحيفة عن مصدر دبلوماسي، قوله: “إذا حكمت العدالة الفرنسية، فليس من المؤكد أن محكمة النقض ستتجه في النهاية نحو اعتقال نتنياهو”.
ولتعقيد الأمور، يمكن للحقوقيين عقد مقارنة بين بنيامين نتنياهو وفلاديمير بوتين، الذي صدرت ضده أيضا مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، بسبب الترحيل القسري للأطفال الأوكرانيين إلى روسيا. لكن فرنسا، مثل الولايات المتحدة، رحبت بالإجراءات التي بدأت في مارس 2023 ضد الرئيس الروسي.
وحذر دينيس بوشارد، الدبلوماسي السابق، من أنه في حالة المعاملة التفضيلية بين بوتين ونتنياهو، فإن ذلك من شأنه “تأجيج الاتهامات بازدواجية المعايير التي يمارسها الغربيون”، كما تنقل عنه صحيفة “لوموند”.