أيامنا الحلوة: ‏الفنون سلاحنا ضد العنف

2024-03-11

عاطف محمد عبد المجيد

في روايته «أيامنا الحلوة» الحائزة على جائزة الأطلس الكبير في الأدب الفرانكفوني، يحتفي الروائي المغربي موحا صواك بعبد الحليم حافظ متسائلاً كيف يمكن لأحد أن يقاوم صوته. كما يحتفي بالفنون عامة، وبالرقص والموسيقى على وجه الخصوص: «ليس ثمة من شعب من غير رقص أو موسيقى. العالم يظل مشدوهًا من التأثر أمام الموسيقى. الشعب الحزين يرقص، والشعب الثائر يرقص، والشعب الفرِح يرقص»…

غير أنه إلى جانب هذا الاحتفاء نجده مُندّدًا بما يحدث للمرأة العربية من قهر وقمع وتعذيب، كذلك يرفض صواك قمع الكُتاب والصحافيين، مع كثرة المحاذير، التي لم يعد أحد معها يجسر على كتابة أي شيء، مثلما ينتقد ما يفعله الأقوياء في هذا العالم بالضعفاء: «حيث الكائنات البشرية لم تعد كذلك، لأن الأقوى يسحق الأضعف».

في أيامنا الحلوة هناك ثلاثة أبطال: الراوي ويعمل صحافيًّا في جريدة يومية ليس لها توجّه ثوري، مُنى التي يلتقيها في محطة القطار وتجلس بجانبه، وهي إحدى المهتمات بالفنون، وعلى رأسها الرقص، الذي اكتشفت أنه هو التعبير الأول للإنسان قبل الكلمات، وقد جاءتها أكثر من فرصة للعمل كواحدة من نجمات الرقص في باريس وبروكسيل، لكنها آثرت أن تظل في بلدها المغرب، ولا تدري لماذا. وفضيلة التي تهيم عشقًا في عبد الحليم حافظ حد أنها ابتهجت كثيرًا يوم أن أهدتها جارتها كُتيّبًا يحوي كلمات أغانيه وصورة له، حتى صار الكتيب طالعها الفلكي وكتاب صلواتها.

هنا يجد القارئ نفسه أمام ثلاث شخصيات مقموعة: الراوي يقع القمع عليه من الجريدة، التي يعمل بها، حاذفة من مقالاته كل ما قد يسبب لها أية مشكلات مع كبار القوم من وجهة نظرها، ومنى التي تحب الرقص، يقمعها مجتمع يرى فيه رذيلة ومعصية كبرى، لا يليق بأنثى أن تقترفها في مجتمع شرقي، وفضيلة التي تقمعها أسرتها التي زوّجتها لمن لا تحبه، ويقمعها زوجها وأسرته، حتى صارت حياتها أشد وطأة من جحيم الآخرة، حتى وصل بها الأمر إلى أن ترى التسول أكرم لها من العودة إلى حظيرة زوجها الجزار، ومن المكوث في بيت أبيها.

لقد تعرضت فضيلة للتنكيل بها وضربها في بيت أبيها من قبل وبعد اكتشاف أمر ذهابها إلى السينما لمشاهدة أفلام عبد الحليم حافظ، وبعد ذلك تزوجت لكنها استبدلت سجنًا بآخر، فقد انتقلت من سجن أبويها إلى سجن عائلة زوجها، حيث الجلادون لم يكونوا أقل قسوة من الآخرين. هذا الجو العام من القمع جعلنا أمام راوٍ متشائم سخط على كل أوضاعه، وقد بات لا ينتظر شيئًا من أي مخلوق، بل ولا حتى من السماء، التي لا تأتي منها إلا الكوارث والصاعقة والبرد والعواصف والجراد، وأيضًا الطائرات التي تتحطم بين الفينة والأخرى. الرواية التي تبدأ بمشهد تحْدث تفاصيله في محطة قطار الدار البيضاء، ثم الانتقال بعده إلى الراوي داخل القطار، وهو يعيد قراءة مدوناته، التي رفضت هيئة التحرير أن تنشرها في مقاله، خشية إثارة الأوساط المعادية لتغيير وضعية المرأة المغربية خاصة، والمرأة بصفة عامة، وتنتهي بمشهد لسيارات الإسعاف، وهي تحمل الجرحى والموتى نحو المستشفيات، إثر انفجار قنبلة يدوية الصنع في مقهى، ترى أن الذكور يعتبرون المرأة شرًّا لابد منه، وفيها ينتقد الكاتب المجتمعات، التي ينتشر فيها الكذب والفساد ويصبحان من القيم الأخلاقية الوحيدة للنجاح في الحياة.

ثمة لوم في الرواية على السلفيين نتيجة تشددهم ورفضهم القاطع للفن الذي يعتبرونه من التفاهات، التي لا مكان لها في مجتمعاتنا الورعة!

تأخذنا أيامنا الحلوة نحو بلاد فيها كل ما ينتمي للروح والقلب، لا محل له من الوجود أمام سياسة البطن: على الإنسان أن يأكل وليس عليه فعل شيء غير ذلك، عليه أن يصون الآلة الجسدية كي ينتج ما يحتاجه في التناسل. ثمة شيء آخر يريد موحا صواك أن يقوله وهو أن الأنانية قد تحكمت في البشر إلى حد بعيد، حتى صار كل واحد منا يفكر أولاً في رغيفه قبل رغيف الآخرين. أما على هامش الرواية فثمة ذكر لحرب الرمال، التي اندلعت بين المغرب والجزائر عام 1963 وساندت الجزائرَ فيها مصر وكوبا، مما أثر على العلاقة بين مصر والمغرب بعض الشيء. أيضًا تُعري وضع الثقافة في الوطن العربي، وعدم الاهتمام بها، وفقْر قطاعاتها، كاشفة واقعها المزري. الرواية تطرح كذلك سؤالاً مهمًّا وهو هل على الإنسان أن يتحدى الظروف، التي تكبّل حياته، وتجعله أسيرًا لليأس والإحباط، أم عليه أن يحافظ على توازنه مستمرًّا في الحياة، وألا يستسلم لهذا، وأن يقاوم، مهما حدث، ليحقق حلمه الأبدي؟

هنا أيضًا يضع صواك يدنا على القوة المطلقة، التي ما زال يبحث عنها الإنسان، وهي التي تدفعه إلى الرغبة في الخلود بذريته، وبعمله وفنه، باحثًا عن إكسير الحياة الشهير. إنها الغواية، ذلك الوهم، الذي تخلقه الروح لتفادي الجسد. كما يريد أن يقول لنا إن الاضطهاد الذي عاشه الناس سابقًا كالرقابة اليوم، وكلاهما يحرك الأجساد، حتى تطرد الألم والشر من مسامها وتتحرر من الخطايا: «لقد كان القدماء أشد ذكاءً منا، لأنهم كانوا يعرفون أن الجسد كان الرابط بين السماء والأرض».

«أيامنا الحلوة» الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة الجوائز، بترجمة جيدة للمغربي فريد الزاهي، ومنها خلال صفحاتها نعرف أن بعض الفنانين يعيشون الفشل قبل أن يعترف الجمهور بهم، تتركنا بعد انتهائنا من قراءتها ونحن في حالة حزن شديد على واقع عربي لا يدري أحد متى سيتخلص مما هو فيه من تخلف ورجعية، وأفكار لا أثر لها سوى تدمير الأرض، بما فيها ومَن عليها، متحسرًا على ماض بعيد كانت فيه الحرية والفن يحتلان الصدارة، بينما الآن أزاحتهما أشياء أخرى غريبة على المجتمعات العربية: «فضيلة رفضت كل شيء من أجل الفن، فيما تركت ابنتُها كل شيء من أجل الدين».

باختصار يريد صواك أن يقول إن أيامنا الحلوة لن تعود مرة أخرى إلا إذا عدنا نهتم بالفنون ونضعها في مكانة تليق بها، فهي سلاحنا ضد العنف والتطرف، الذي يفرضه المتطرفون على كل أرض تعادي الفن وتغوص في مستنقع الرجعية والتخلف.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي