أُنسي الحاج في ذكراه العاشرة.. العالَم كلّه ينتظر

2024-02-19

ظلّ أُنسي الحاج الذي مرّت عشرة أعوام على رحيله أمس الأحد، مسكوناً بالتمردّ والخروج على السائد الشعري والكلامي، منذ أصدر ديوانه الأول "لن" عام 1960؛ خروج بالقصيدة من شكل إلى آخر، ومن بُنية إلى أُخرى، ومن معنىً إلى آخر، كما شكّله في مقدّمة الديوان التي لا تزال تُعتبر "مانفيستو" مؤسِّس لقصيدة النثر.

تمرّدٌ يميّزه هو نفسه في أحد حواراته الأخيرة بأنه لا يعني الثورة، إذ وصف الشاعر اللبناني (1937 - 2014) نفسه بالـ"فوضوي" حتى في صلب إيمانه وعقديته الدينية، وهو توصيف مُعبِّر عن تجربة ثريّة مديدة في الكتابة الشعرية والنثرية جاوزت الستين عاماً، كان مُحرّكها الأساسي "يوتويبا" الشاعر الذي يعبث بالكلمات والمعاني لتشكيل بُنىً جمالية جديدة، فيما هو لا يتقصّد تغييراً يمضي في خطّ معلوم المبتدأ والمنتهى، أي وفق معنى مرسوم مسبقاً.

القصيدة والمقال سارا معاً منذ انطلاق تلك "الفوضى" التي فتحت الأذهان والقلوب في لحظة تاريخية حرجة، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي حيث الخلخلة والهدم تعصف بجميع البُنى الاجتماعية والسياسية، ربما لا تزال تداعياتها حاضرة في جميع المراحل اللّاحقة، حيث ظلّت العديد من أسئلة ذاك العقدين راهنة ومُلحّة حتى اليوم.

بعد عشر سنوات من رحيله، يُقال الكثير عن شعرية أُنسي الحاج وموقعها في خارطة الشعر العربي الحديث، وتجريبه الدائم في الاشتغال على وظيفة اللغة ودلالاتها، وفي تحويل الحياة اليومية العادية والشطحات الذاتية إلى موضع للتأمّل من منظور مغاير، عبر تجريده من بُعده الآني والمؤقّت والعابر واختباره خارج حدود زمانه ومكانه، في سياق تُكثِّفُه المفارقات والتساؤلات الموجعة.

رؤية انسحبت أيضاً على مقالاته، مع اختلاف الأدوات والأسلوب، في تناوله السياسة تحديداً، حيث تُستعاد قراءتها رغم صلتها الوثيقة بالحدث الذي ارتبطت به، إلّا أنها كانت تفيض سخرية وألماً وحكمةً، خاصة في تلك الكتابة النثرية، كما في نصّه "يسوع المسيح احضر حالاً" الذي نشره عشيّة عيد الميلاد؛ 24 كانون الأول/ ديسمبر 1967، أي بعد أشهر قليلة من العُدوان الصهيوني التوسّعي في الخامس من حزيران/ يونيو.

في النصّ، يُوجّه أُنسي الحاج خطابه بمنتهى الوضوح والجرأة حول الواقع الإنساني القلِق وما يعتريه من توحُّش، كلماتٌ مُحتجّة نستعيدُها بعد عقد من رحيله ونحن أمام إبادة صهيونية موصوفة ومستمرّة تُرتكب في غزّة اليوم، أمام أنظار العالَم كلّه، خاصة أنّ الشاعر يضع فلسطين في هذا النصّ موضع السؤال الذي يتوّج كلّ القضايا في العالَم، مُفصِّلاً في ذِكر أسماء مُدنها ومشاهدها الجغرافيّة.

يُخاطِب المسيح في هذا النص:

"الجميع بانتظارك والأهل والأقارب ليسوا في خير.

احضرْ حالاً.

الأرض التي أنجبتك خربانة.

الجيران متدهورون.

روما الحديثة مسعورة وبيلاطس ملايين ويهوذا الإسخريوطي قوانين والرُّسل الاثنا عشر أفلسوا.

'أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني بيعتي' لكنّهم بنوا على الصخرة مؤسّسة تلعب الرّياح فيها بالأوراق والملفّات والغبار والألفاظ".

يُعلن أُنسي الحاج سأمه من التراتيل والعِظات، وأنه يريد أن يسمع كلاماً مباشراً لا لبس فيه حول الواقع الفلسطيني والعربي، فيضيف: "نريد أن يقول لنا أحد من نحن، ولماذا يضربوننا، ويكذبون علينا، ويجوّعوننا، ويبشّعون حياتنا، ويهدرون مستقبل أولادنا، ويعهّرون الحياة من بابها إلى محرابها".

ويطلب من السيّد المسيح أن يقول موقفه من الحبّ، والجنون، والطبّ، والعمل، والمال، والحرب، والعائلة، والبابا، والعقائد، وموت الأطفال، والأمم المتّحدة، والفنون، والشعر، والجنس، ومسيحيّي لبنان، وسورية، والأردن، ومصر، والسودان، والعراق، ليختم نصّه:

"لم نعد نريد اللجوء إلى الغيب والتجريد. نريدك بلحمك وعظمك.

أنت يسوع المسيح.

نريد أن نعرف.

أن نعرف كلّ شيء.

نريد أن نعرف منكَ أنت شخصيّاً، بكلام جديد، واضح، هادئ أو صارخ.

تعال.

الناصرة تنتظر.

بيت لحم تنتظر.

القدس تنتظر.

جبل الزيتون ينتظر.

الجلجلة تنتظر.

فلسطين تنتظر.

العالم كلّه ينتظر...".








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي