أشعيا برلين … في غزّة

2024-01-19

صبحي حديدي

ثمة مقدار من الصواب، عالٍ في يقين هذه السطور، ولعلّه يصعب أن يكون غائباً تماماً في استحضار هذا أو ذاك من محاور التفكير الصهيوني التكوينية والناظمة عند الاستماع إلى مرافعات فريق الاتهام الجنوب أفريقي أمام محكمة العدل الدولية، بصدد جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال بحقّ المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة.

وثمة، إلى هذا، صوابية أخرى مكمّلة لا تتيح استعادة أفكار صهاينة مؤسسين من أمثال تيودور هرتزل وماكس نوردو وزئيف جابوتنسكي وأرثر روبين فحسب؛ بل إسهامات مباشرة تارة أو هوامشية محاذية تارة أخرى، لفلاسفة ومفكرين لم يكونوا صهاينة بالمعنى الانتمائي والتنظيمي الصريح، بقدر ما صنعوا قسطاً غير ضئيل من الديناميات السجالية التي ضمنت لحراك الصهاينة المتفرغين نطاق حضور أعرض ومضمار تأثير أجدى. بين أبرز هؤلاء أشعيا برلين (1909-1997)، المنظّر الاجتماعي والسياسي والفيلسوف البريطاني، لاتفي الأصل؛ الذي في الوسع اختصار موقفه من الصهيونية في المعادلة التالية: الصهيونية مسألة هوية يهودية، والهوية هنا تخصّ الانتماء والجنسية والمواطنة، ولهذا فإنّ إقامة دولة إسرائيل أمر مطلوب كي يكتسب اليهود هوية قادرة على مقاومة التمييز.

ليس هنا المقام المناسب لاستعراض تفاصيل أخرى في الفلسفة الصهيونية عند برلين، إذا جاز فعلاً اعتبار آرائه حول الصلات بين الهوية اليهودية والحركة الصهيونية بمثابة «تفلسف» ضمن سلّة أوسع وأشمل؛ وقد يصحّ أن تُضاف إلى الاختصار السالف حكاية الخلاف بين برلين وحنّة أرندت، المفكرة اليهودية الأمريكية ألمانية الأصل؛ بصدد ثلاث ملفات: توصيف الصهيونية، والتطبيقات النظرية عنها وحولها، وتأويلات السياسة الأعرض بصدد الهولوكوست على وجه التحديد. جدير بالانتباه، هنا تحديداً، أنّ الافتراق بين برلين وأرندت لم يسفر فعلياً عن كمّ كافٍ، أو حتى واضح الانحيازات، بصدد صهيونية «العمل» وصهيونية «المراجعين».

ليس أدنى دلالة أنّ برلين كان أقرب إلى صهيونية حاييم وايزمان ودافيد بن غوريون، بينما تلهف على زجّ أرندت (عند واحدة من الذرى الأوضح للنزاع بينهما) في صفّ صهيونية جابوتنسكي وآبا أخيمير؛ وكان دليله البيّن القوي في الواقع، أنّ أرندت أيدت فكرة تأسيس «جيش يهودي»، اعتبره برلين انزلاقاً خطراً نحو صهيونية متطرفة متعصبة. ولسوف يطرق برلين المسمار أكثر، كما يُقال، معتبراً أنّ أرندت مدّعية متكلفة، وكتابها «الشرط الإنساني» أظهر «جهلها الواسع بالكلاسيكيات اليونانية»، مثل كتابها «أصول التوتاليتارية» الذي كشف جهلاً مماثلاً بالتاريخ الروسي، فضلاً عن غطرسة لا تُصدّق في تعليم اليهود من ضحايا النازيين كيف كان يتوجب أن يتصرفوا».

وفي نيويورك خلال 1940 و1941، كان برلين قد «تشبّع»، كما يجوز الافتراض، بمواقف عدد من كبار ممثّلي التيارات الصهيونية الأمريكية ومؤسسي «المؤتمر اليهودي الأمريكي»، أمثال ستيفن وايز ولويس ليبسكي؛ فضلاً عن الألماني كرت بلومفيلد، صاحب السبق إلى تعريف برلين على أرندت. ولعلّ الأهمّ في تلك المرحلة ما توصّل إليه برلين حول يهودية أوروبا الشرقية التي ظلت راكدة جامدة حتى جاءت فلسفة الأنوار الغربية فنفخت الحياة فيها. ليس أقلّ إثارة للعجب من فيلسوف في موقعه على أقلّ تقدير، أنه كان قد اقترح شخصية بنيامين دزرائيلي، رئيس وزراء بريطانيا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، بوصفه اليهودي الذي تسامى على وضعية الغريب واندمج في الطبقة العليا البريطانية على نقيض ما فعل كارل ماركس؛ ولهذا فإنّ الصلة منعقدة بين الإمبراطورية البريطانية، وفلسطين، والمواطنة اليهودية!

وفي هارفارد سوف يلتقي برلين بالمِؤرخ الأمريكي آرثر شلزنغر الابن، شاغل منصب المساعد الخاص السابق للرئيس الأمريكي جون ف. كنيدي، والعامل مع «مكتب الخدمات الاستراتيجية»، الذي سوف تتغير تسميته إلى «وكالة المخابرات المركزية»؛ وبالتالي لن يكون الفيلسوف بعيداً عن سلسلة معطيات أمنية وجيو- سياسية تربط فكرة الوطن اليهودي بالسياسة الخارجية الأمريكية. وهنا أيضاً سوف تتخذ ميول برلين الصهيونية بُعداً جديداً، سوسيولوجياً هذه المرّة، حين سينضمّ إلى مؤتمر حاشد بعنوان «التجربة اليهودية»، الأمر الذي سيحيله إلى أسئلة انتماء شائكة، بين موطن بريطاني اختياري، ومحتد لاتفي روسي، ونزوع نحو «مواطنة» يهودية يشدّه إليها قدوته وايزمان.

الحصيلة بالطبع كانت ترسّخ إيمان برلين بطراز أنْسَني/ ليبرالي من الصهيونية، ينبع كذلك من التزامات تنظيرية سبق أن اقترنت بشخصيته الفلسفية، وبقاعدة «كونية» تقول إنّ الآدمي يجب أن ينتمي إلى جماعة، وهذا شكل من النزعة القومية تتجلى وظيفته الأساسية في تأمين وطن للحياة الجماعية لشعب ما. وهنا كان القاضي الإسرائيلي أهارون باراك، الذي مثّل دولة الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، شديد الانضواء في مقاربة برلين لواجب الهوية القومية الإسرائيلية، من جهة أولى؛ ولطراز من «رياضة» أنسنية غائمة تساجل بأنّ القضاء الوطني الإسرائيلي هو الأقدر على محاسبة جنود إسرائيليين انزلقوا إلى ارتكاب انتهاكات لا مفرّ منها، من جهة ثانية.

وهذه سطور لا تجد البتة غرابة في أنّ بارك جرّ برلين، صاغراً أم طائعاً، من قبره في أكسفورد إلى جباليا ودير البلح والشجاعية ومدينة غزّة، قبل لاهاي؛ حيث لا يتعاقب التاريخ الصهيوني من دون سابق ولاحق…








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي