جدلية الماضي والحاضر في المجموعة القصصية «محاكمة إلهة»

2023-12-30

عايدي علي جمعة

تقع المجموعة القصصية «محاكمة إلهة» للكاتبة المصرية إيناس فيصل في مئة وستين صفحة، وتحتوي على خمس وعشرين قصة متفاوتة في الطول، فالقصة الأولى منها التي تحمل عنوان «أخبار النساء في العصور الغابرة» تستغرق وحدها أكثر من عشرين صفحة، وهي أطول قصص المجموعة، في حين نرى بعض القصص لا تكاد تستغرق صفحة واحدة مثل قصة «المتلاعبون» و»ظلوما جهولا» و»وكانت من الغابرين» وتتراوح بقية القصص بين ذلك، ويطل الإحساس بالماضي وطريقة سرده بقوة في بداياتها، على نحو ما نرى في قصة «أخبار النساء في العصور الغابرة» وقصة «محاكمة إلهة» حيث يتنفس القارئ عبق الحكايات الشعبية في الأولى وعبق الحكايات الأسطورية في الثانية، مع تميزهما بالطول إلى حد ما، وهذا الطول في هاتين القصتين ظهر من خلال عدد الصفحات، فالقصة الأولى تجاوزت العشرين صفحة، والثانية كانت أقل منها قليلا، مع شخصيات كثيرة وبنية زمنية ممتدة تستغرق سنوات كثيرة، وبنية مكانية متنوعة وحدث يستغرق هذه الشخصيات الكثيرة، والزمن الممتد والمكان المتنوع وفجوات كثيرة على القارئ أن يتدخل لكي يملأها، ويظهر الإحساس العام بالرضا في القصة الأولى، لأن الخير ينتصر والشر يندحر، ويلتقي الحبيبان على حافة النهر بعد قلق وفراق.

كما أننا لا نعدم تداخل العوالم، خصوصا في القصة الثانية «محاكمة إلهة» حيث يتداخل عالم الآلهة مع عالم البشر، حينما تقع إلهة فائقة الجمال في حب بشري، وتتحدى عالم الآلهة وتتزوجه، لكنها تكتشف خيانته لها، وتمرده على حبها، فيعاقبها عقابا شديدا، مثل عقاب سيزيف، فتحمل الصخرة إلى قمة جبل، لكنها عند القمة تتدحرج منها، فتعود لحملها، وهكذا، لكنها في النهاية استطاعت أن تتخلص من حبه، وتعاقبه. وهنا نرى عوالم الحكي كما في الموروث الحكائي سواء الشعبي أم الأسطوري تطل بخصائصها، فنجد السحر والقرابين والشامة على جسد الحبيبة المكتوب عليها اسم حبيبها، والتعرف على الحبيبة، كما نجد اللعنة والفروسية والضياع والفراق واللقاء، مع لغة تمتاح كثيرا من بنية اللغة في الحكي التراثي، موحيا في الوقت نفسه بالنفس الطويل.

ومن هنا فقد كان التفاعل مع التراث له حضور قوي جدا، وقد أخذ ملامح مختلفة، مثل استخدام مفردات وجمل لها شهرة تراثية كبيرة جدا، لأنها وردت في القرآن الكريم، مثل عنوان قصة «ثم يصير حطاما» وعنوان قصة «حمالة الحطب» وعنوان قصة «كانت من الغابرين» وقد يأتي هذا التفاعل مع التراث، من خلال استعارة طريقة حكي الحكايا الشعبية أو طريقة حكي الأساطير، أو من خلال استلهامه على نحو ما نجد في قصة «زليخا» حيث يعود الشباب إلى البطلة بعد شربها من كأس حبيبها نكتار الحياة، ولذا كان عنوان القصة زليخا لتذكرنا بما حدث لزليخا زوجة عزيز مصر، حينما عاد إليها الشباب بسبب حبها ودعاء يوسف الصديق لها.

لكن ذلك لا يعني انغماس هذه المجموعة التام في أجواء الماضي، وإنما ظهر تفاعلها القوي جدا مع الحاضر ومفرداته وسياقه الاجتماعي، حيث انغمست في الحاضر بقوة أكبر من خلال قصص كثيرة، تكشف بقوة عن أزمة إنسان هذا العصر، وطموحاته ورؤيته للعالم وإحباطاته، وعلاقاته المتوتره مع محيطه. وظهر التفاعل الواضح مع معطيات علم النفس على نحو ما هو متحقق في قصة «الضوء الخافت» فتستعين بالهامش لشرح هذا المصطلح في علم النفس فتقول في هامش: («الإضاءة الغازية» «الضوء الخافت» «التلاعب بالعقول».. مصطلح يعبر عن أحد أضلاع التلاعب النفسي الذي يمارسه شخص على شخص آخر أو مجموعة من الأشخاص، إذ يسعى إلى زرع بذور الشك وزعزعة ثقة شخص ما في نفسه، وإشعاره بالخوف والضعف، وإقناعه بأنه موهوم أو مجنون».

وفي قصة «نوبة هلع» تستحضر الكاتبة إيناس فيصل أجواء علم النفس من خلال خداع الطبيب النفسي للبطلة، فيراها عرضا، ويعرف بحدسه المهني بأنها تعاني من قلق نفسي رهيب، فيتقرب منها، ويحاول بكل قوة أن ينتشلها من هذا القلق فتطمئن إليه، وتسلمه نفسها، وتجد فيه الراحة الكبرى من كل قلقها، لكنه يخبرها بسفره المفاجئ، فتشعر بمرارة فراقه، لكنها تبصرإضاءة في المكان الذي كانت تلتقيه فيه أثناء مرورها مصادفة، وحينما تدق جرس الباب تكتشف بأنه مع واحدة غيرها، فتصاب بهلع نفسي أشد ضراوة من هلعها السابق.

وكان من نتيجة تفاعل هذه المجموعة مع معطيات علم النفس حضور تقنية الحلم، على نحو ما نجد في قصة «خفايا الروح» حيث نجد البطلة ترسم على لوحتها شكلا يعبر عن الغموض الرابض في أعماق روحها، لكن هذا الشكل يظهر لها أثناء استغراقها في النوم على هيئة شخص مرعب يطاردها. كما تظهر القدرة على صنع النموذج في بعض قصص المجموعة، على نحو ما نجد في قصة «كاره النساء» حيث تصنع الكاتبة نموذج الرجل القبيح الوجه والقلب، والذي تنفر منه النساء نفورا شديدا بسبب تصرفاته الكاشفه عن تشوهه النفسي المخيف. كما أن هذه المجموعة تنتصر للريف وما فيه من هدوء واندماج في الطبيعة الخلابة على حساب المدينة التي تفقد الإنسان هدأة القلب والعقل، على نحو ما نجد في قصة «المسوخ» التي يعود بطلها مع زوجته إلى الريف بعد أن ذاق الأمرين من ضجيج المدينة. ولا نعدم الحس الصوفي الذي ظهر بقوة في بعض قصص المجموعة مثل قصة درويشة» على سبيل المثال. وكان السارد المعتمد في هذه المجموعة القصصية هو السارد البراني الذي يستخدم الضمير الثالث هو، وينقل لنا الأحداث دون أن يكون مشاركا فيها.

وقد هيمنت اللغة السردية على معظم قصص هذه المجموعة «محاكمة إلهة» للكاتبة المصرية إيناس فيصل، وكان المجاز حاضرا بقوة عبر بنيتها، وكثيرا ما كنا نجد تحول اللغة السردية إلى لغة موقعة، مستدعية طريقة الكتابة الشعرية، حينما تقول:

«أنصت للصمت

واسبح في السكون

تتطهر روحك».

وقد سجلت اللغة الحوارية حضورا واضحا أيضا لدرجة أن الحوار أحيانا كان يستغرق القصة من بدايتها حتى نهايتها على نحو ما نجد في قصة «أنفس بلا روح» حيث تظل البنية الحوارية مهيمنة من البداية حتى النهاية، وتنهض هذه البنية الحوارية بالكشف عن طبيعة الشخصيات وقناعاتها ورؤيتها للعالم، وما تسرب داخل عقل هذه الشخصيات من ثقافة سابقة شكلت تلك الرؤية، وبسبب البنية الحوارية فقد كان المكان محددا فيها لم يتغير وهو حجرة الصالون التي تلتقي فيها البطلة بالبطل الذي جاء ليخطبها كاشفا لها منذ البداية عن طبيعته الخاصة، والتي تتوافق مع الكثير من طباع الرجال في وطننا من أن الرجل حين يتزوج المرأة فإن عليها طاعته التامة، وعليها أن تلغي شخصيتها حتى تنال الرضا، فتفكك البطلة ما يقوله بطريقة عقلية، وينتهي الحوار بمفترق طرق.

أما اللغة الوصفية فقد كانت متسربة في قصص هذه المجموعة، ونهضت بالتالي بدورها البنائي في تشكيلاتها، فضلا عن حضور اللغة الوصفية.

وكثيرا ما نجد سمة «اللاتحدد» حاضرة بقوة في بعض قصص المجموعة، على نحو ما نجد في قصة «المتلاعبون، وقصة «ظلوما جهولا» فلا نجد تحددا واضحا للشخصيات أو الزمان والمكان، ما يجعل لهذه القصص سياقا سرديا عاما.

ومن هنا فإن هذه المجموعة القصصية «محاكمة إلهة» للكاتبة المصرية إيناس فيصل تظهر بوضوح شديد جدلية التفاعل الفني بين الماضي والحاضر.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي