«يوميات يوسف الصائغ»… أبداً ليس بالخبز وحده نحيا

2023-12-21

هاشم شفيق

الشاعر يوسف الصائغ هو أحد أهم الشعراء الذين أعقبوا جيل الرواد، فجيله لا يقل أهمية عن الرواد المؤسسين للشعر العربي الحديث، كالسياب ونازك والبياتي وبلند الحيدري، وهو يضم نخبة لامعة ومؤثرة وفاعلة في مسيرة الشعر العراقي، كسعدي يوسف ومظفر النواب ومحمود البريكان ورشدي العامل.

تأتي أهمية يوسف الصائغ الشعرية والأدبية، كونه شاعراً صافياً قل نظيره في زمنه وبين جيله، يكتب القصيدة الذهبية، الخالية من الرتوش والمحسّنات البديعية والبلاغة الطاعنة في السن، ومن الزخرفة اللغوية وتوابعها، من لفظ خشن وغير محبب، ومن تشكيلات تعبيرية غير مفهومة ومبهمة، ومن مطاردات للجمل العمياء والبليدة، تلك التي كثرت في زمنه، وعلى يد شعراء أقل موهبة منه، فهو شاعر مطبوع، لغته مشذبة وصقيلة ورفيعة، خالية من الدهون اللفظية، والسمنة اللغوية، تلك التي مسّت شعراء يستطردون في العروض والقوافي، وفي البهرجة الطللية والصيغ البيانية، التي كانت سائدة لدى شعراء من جيله، ساطعين ومعروفين على الصعيد الشعري العراقي، مثلما هو الحال مع الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، الذي صال وجال بلغة مستهلكة، وتعابير متداولة وتقليدية لدى من سبقوه من الشعراء الكبار، أبرزهم الجواهري.

هذا على صعيد الشعر، أما على الصعيد الروائي فهو روائي مبكّر، كتب الرواية إلى جانب الشعر، وعلا صوته، ولمع اسمه في هذين العالمين على نحو متساوق، شعراً ورواية.

وإذا تجاوزنا هذين الأقنومين سنجده أيضاً رساماً، وناثراً من طراز رفيع، فهو كاتب مسرحي وكاتب أعمدة صحافية، وله رؤية نقدية، كان يمارسها حين عمل في الصحافة العراقية لفترات طويلة. هذا على الصعيد الإبداعي، لكن على الصعيد الحياتي هل ستكون حياته ناجحة هكذا، كلا طبعاً، فهو مثل أي فنان مبدع ومؤثر ومتعدد المواهب، سنجده في حياته اليومية، قد عانى من صدمات حياتية أورثته تقلبات سايكولوجية ومنعطفات عاطفية، جاءته عبر تحوّلاته السياسية، ومن ثم الاجتماعية، عقب وفاة زوجته جولي في حادث سيارة وقع في تركيا، ورث عقبه انتكاسات روحية، مسّت صميمه بوفاة حبيبته، ثم تبعتها ارتكاسته الثانية بتخليه عن مبادئه مع الحزب الشيوعي العراقي، بتبنّيه مبدأ القطيعة مع تاريخه السياسي، وهو المناضل العتيد، والسجين السابق في سجون البعث أيام الستينيات، في سجن نقرة السلمان.

ثمة صورة تذكارية له وهو في السجن يرتدي رداء السجناء، تجمعه مع رفاقه من الأدباء، وهم الشاعر الراحل مظفر النواب، والناقد المعروف فاضل ثامر، والشاعر ألفريد سمعان، والباحث هاشم الطعان. وحين تبرأ البعث من ماضيه الدامي مؤقتاً، في فترة حكمه الثانية، عاد الصائغ عاملاً في صحافة الحكومة، من بينها مجلة «ألف باء»، إذ كرّست له المجلة الصفحة الأخيرة، فكان يكتب عموده الأدبي تحت عنوان «أفكار بصوت عال».

تأتي أهمية يوسف الصائغ الشعرية والأدبية، كونه شاعراً صافياً قل نظيره في زمنه وبين جيله، يكتب القصيدة الذهبية، الخالية من الرتوش والمحسّنات البديعية والبلاغة الطاعنة في السن، ومن الزخرفة اللغوية وتوابعها.

وحين عاد الحزب الشيوعي للعمل المكشوف، عمل الصائغ في صحافة الحزب الشيوعي العراقي، متخلياً، أو مطروداً من المجلة الحكومية، فظهر حينها كصوت قوي ومتفرد في صحيفة الحزب الشيوعي العراقي «طريق الشعب»، وحدث هذا أيام الزواج السياسي غير الناجح مع البعث، الذي أدى في ما بعد الى الطلاق النهائي بين الحزبين المتحالفين، ليعودا كما كانا في السابق عدوين لدودين متخاصمين ومتنافرين، ولا يلتقيان، خصوصاً بعد أن تمكّن الجناح اليميني في حزب البعث من السيطرة الكلية عليه، فقام حينها بالتصفية السياسية للأحزاب الأخرى، وعلى رأسها الحزب الشيوعي العراقي، فوضع أغلب كوادر الحزب الشيوعي في السجون، وطوردت قاعدته الحزبية، ما اضطر القيادة العليا في الحزب إلى الخروج مع بعض قواعدها الى المنافي العربية والأوروبية، ومن لم يحالفه الحظ في الخروج توارى عن الأنظار، أو صمت، أو انخرط في سياسة الحزب الحاكم مكرهاً، أو تخلى عن عقيدته السياسية، كما حدث مع شاعرنا الصائغ عبر كتابته صفحة كاملة في صحيفة النظام الحاكم، يوضح فيها موقفه الجديد المتطامن مع سياسة النظام القائم حينذاك.

طبعاً الحزب لم يتخل عنه، بل زاره وعرض عليه جواز سفر للخروج، كما تناهى إليّ من خلال علاقتي بأصدقائه المقرّبين، الذين عرضوا عليه هذا الأمر، لكن الصائغ رفض فكرة الخروج والمنفى، وهذا طبعاً من حقّه، ولكنه من جهة ثانية لم يصمت مثل الآخرين، أو يترفع عن المغريات، إنما انخرط وبقوة في تسنّم المناصب الوظيفية العليا، من بينها مدير عام «دائرة شؤون السينما والمسرح»، ولم يكتفِ بذلك، بل راح يشن حملات كتابية، تحمل بعض الشتائم للحزب الشيوعي ولقادته المعروفين، كما وضح ذلك في رسالته إلى من يسمى حينذاك «السيد النائب»، وكما تكشفه كذلك مدوناته، في مذكراته الصادرة الآن، وهي حديث هذا المقال. لا يختلف أحد حول حرية تعبيره هذه، لكن الرسالة التي كتبها يبدو أنها قد أوصلته إلى ما يريد من مركز وجاه ونفوذ.

وبالعودة إلى يومياته، وهي يوميات حزينة وكئيبة باعترافه هو حين يقول: «يوم تافه آخر يمضي»، كما يعبر عن بعض الأيام التي تمر به، ذلك أنها تكشف عن محنته المثلثة، وهي محنة سياسية وفنية وجنسية، كما تبيّنه اليوميات من تفاصيل. فهو رجل فنان، شاعر ورسام وروائي، يتعاطى الكحول بكثرة، وهو مدخّن شره، وقارئ شره كذلك، وهذا ما توضحه اليوميات من مشكلاته اليومية، حيث يكتب الشعر ويدونه في المذكرات على أنه كتب قصيدة اليوم، وأحيانا كانت القصيدة تتعسّر ولادتها لديه، وهذا ما يفسّر قلة إنتاجه الشعري بشكل عام. قصائده غالباً ما تدور حول زوجته المتوفّاة، مرّات يهجوها، ويتكلم عنها كلمات بذيئة، متّهماً إياها بالخيانة مع شخص آخر، وهو رسام معروف، يشتمها ويتشهاها في آن، حتى وهي ميتة، كتب عنها ديواناً كاملاً يُعد من عيون الشعر العراقي وسمّاه «سيدة التفاحات الأربع»، رسمها أكثر من مرة، ولكن كانت له عشيقة يحلم بها، ويرسمها أيضاً ويكتب لها الرسائل، متغزّلاً بأنوثتها، ثم يصادق طالبته بطلب منها ويختلي بها، ويمارس الرذيلة مع بائعة للهوى، عبر مدبّرة ترتّب له هذه الوضع أيام الآحاد، ثم لا يتوانى عن أن يتلصص على شابين قريبين له من ثقب الباب، وهما يختليان ببعضهما، كونهما لا يملكان مكاناً للجماع، فيأتيان إليه من باب الأمانة، ولكنه هنا بحسب تعبيره الوارد في اليوميات يخون الأمانة، ليقرّع ذاته في ما بعد على هذا الفعل.

ثمة أحداث كثيرة حملتها يوميات «أبداً ليس بالخبز وحده نحيا»، هذه اليوميات التي حققها وكتب مقدمة لها قيس كاظم الجنابي، الصادرة عن دار «سطور»، تشي بحياة شاعر معذّب، شاعر فقد حبّه، وتعلق بحب امرأة أخرى لا يكشف عن اسمها، يكتب لها الرسائل، ولكنها لا تجيب، ينتظرها ولكنها لا تجيء، أو تقوم له بزيارة، ثمة نساء يزرنه، ولكنهنّ إما قريبات أو صديقات بعيدات، أو أخوات زوجته، أو صديقات صديقته الجديدة. حوادث كثيرة وردت في الكتاب، مزاج متقلب في زمن متقلب، من الهدوء والسلام الى زمن الحرب، زمن يعبر ضمن سياق حياة خاوية وحزينة، مرّ بها شاعر كبير، وقف الزمن ضده، لينتهي معزولاً، يخوض حياته العبثية وحيداً.

شاعر عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي