في مفهوم الشعرية

2023-12-14

أحمد عزيز الحسين

دعونا أولا نتفق على بديهةٍ نقديةٍ ، هي أن الشاعرَ لا يتكلم مثل الناس العاديين؛ وأن لغته غير عادية أيضا، وأن ما يميز لغته من غيره كامنٌ في كيفية تشكيل اللغة؛ وأنه يتفرد عن غيره بالقدرة على «تصريف الكلام، وإطلاق المعنى وتقييده، وتصريف اللفظ وتعقيده» كما يقول القرطاجني، وأنه «أمير كلام» كما يقول الفراهيدي، كما أنه يفعل في اللغة بواسطة اللغة ذاتها، وعن ذلك يتولد الحدث الشعري أساسا، فضلا عن أنه يرفع الخطابَ اللغويَ نحو ذرى إبداعية تتمثل في «استخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعْته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه «(منهاج البلغاء للقرطاجني، ط الخوجة) ولذا فهو يغير نظامَ الأشياء، ويعيد تنظيمها من جديد، ويصوغ كلاما يؤدي إلى الفتنة، كما قال الجاحظ؛ فتمسي لغته بوابة مشرَعَة على السحْر والغواية، ولا تنتهي إلى غاية، بل تثير حركة مفتونة بذاتها، مأخوذة بنفسها، منشغلة عنا بصخبها وهديرها المكتوم، واندفاعاتها الهائلة، كما يقول محمد لطفي اليوسفي، ولعل هذا هو ما دفع القاضي الجرجاني للقول بأنه « ليس في الأرض بيتٌ من أبيات المعاني بقديمٍ أو حديثٍ إلا ومعناه غامضٌ مستترٌ» (الوساطة بين المتنبي وخصومه). والشاعر، هو من يمتلك سلطانا لا يرَد هو سلطان الغواية والفتنة والسحْر، ولذلك أصبحتْ مَهمته تتمثَل في التطلع الدائم «لما يشق مطلبه ويصعب تناوله» وتزداد تلك المهمَة عسْرا عندما نراه مطالَبا بالعدول الدائم عن المتحقَق من الأقاويل والصور؛ حتى لكأنه منذورٌ للوقوف على عتبات الآتي الذي لم يتحقق، وتبعا لذلك يصبح الشعر حركة لا تعرف الأناةَ والتوقفَ، وتكون تلك الحركة مهدَدَة دوما بالسقوط في حمأة الغموض والإبهام، مع أنَ الصعوبةَ تكمن في قدرة الشاعر على معرفة الحدود وضبطها وتوظيفها لصالح نصه الشعري، وآلية إبداعه الخلاقَة. ولذلك كله فإن الشاعرَ الذي لا يفارق منظورَ (القطيع) في رؤية الكون والأشياء، لا يستطيع كتابة شعرٍ يتوافر فيه الإيقاع الداخلي، والصورة الموحية، والمجاز الرشيق، والمفردة الدالة، والصياغة الرشيقة الباهرة؛ والاستيعاب الجمالي المتناسج مع الواقع الموار من حوله، إذْ «دون عينَيْ الطفل الرهيفتَيْن، وأذنَيْه الحساستَيْن، وعقله الموصول بحواسه» كما يقول محمد قرانيا، لا يتمكن الشاعر، أو الكاتب، من تجاوز الرؤية المتخشبة للقطيع، والاتكاء على وجهة نظره الشفيفة في اقتناص ما في الواقع من عناصرَ جميلةٍ تبعث على الإعجاب، كما أنه لا يستطيع رسْمَ ملامح الدهشة في عيوننا، أو تخليقَ نصٍ أدبي بازغٍ يهزنا من الداخل، ذلك أنه يحتاج إلى الدرْبة، والخبرة، والثقافة العميقة، والموهبة الفطرية الأصيلة التي تجعله قادرا على البقاء طفلا في أعماقه، مع امتلاك الأدوات الإبداعية التي تؤهله لكتابة نصٍ شعريٍ جديدٍ يفارق المألوفَ، ويؤسس للجديد على المستويات كافة، وقد لاحظ محمد قرانيا ما اجترحه زكريا تامر في نصوصه الموقوفة للأطفال من جده، وكتب عبارة نقدية ثاقبة تلخص ذلك، وإنْ كنْت أميل إلى أن ما كتبه قرانيا ليس مقصورا على ما كتبه زكريا للأطفال وحسب، بل هو شاملٌ لتجربته القصصية عموما. ومن المعروف أن النص الأدبي لا يكتفي بمحاكاة الواقع كما قال أرسطو، بل يبني واقعا فنيا منفصلا عن الواقع الخارجي، وقد ميز (ابن رشد) الشاعرَ من القاص، وأكد أن القاص ينشئ شخصياته من العدم، ثم يطلق عليها الأسماء التي يريد، في حين أن «الشاعر يضع أسماء لأشياء موجودة» في الواقع» (تلخيص كتاب الشعر: ابن رشد، تحقيق: تشارلس بترورث، وأحمد هريدي، القاهرة)؛ فتحرر بهذا من مفهوم المحاكاة عند أرسطو، وأقام نوعا من المسافة بين النص السردي والواقع الخارجي؛ بحيث أمسى النص عنده نسخة منفصلة عن هذا الواقع لا مطابقة له، كما يقول الشعريون المعاصرون.

والكاتب يستطيع أن يفعل ذلك عندما يتحرر من اللغة الإيصالية التي تهدف إلى التطابق مع هذا الواقع، وإيصال المعنى فقط، وعندئذٍ تغدو المسافة بين النص والواقع شاسعة، ولاسيما حين يستخدم الكاتب لغة تزخر بالمجاز والموارَبة والمخاتَلة والترميز، وبقدر هذا الابتعاد تتحقق استقلالية النص الأدبي عن مرجعه الواقعي، ويغدو النص قادرا على اكتساب شخصية مستقلة عنه، وحين يقرأ المتلقي نصا كهذا لا يحتاج إلى مطابقته مع واقعه الخارجي لكي يقتنع بصدقيته؛ لأن الكاتب يستطيع من خلال اللغة (الانزياحية) التي استخدمها في صياغته، ومن خلال التقنيات التي اتكأ عليها تشكيل نص أدبي له وجودٌ مستقل عن الواقع الخارجي. وفي ظني، أيضا، أن كثيرا من الشعر الذي يكتب، في هذه الأيام، يفتقر إلى الشعرية التي تكتنزها قصص زكريـا تامر، وإلى الخصائص النوعية التي تجعل منه شعرا، وفي مقدمتها: التعامل مع عناصر الطبيعة باندهاشٍ، والقدرة على تحريك المكان الساكن، ومنح الأشياء الجامدة صفاتٍ ليستْ لها، واستخدام الصورة الموحية، والمفردة الدالة، والابتعاد عن الإحساس المتخشب تجَاه عناصر الطبيعة المكتنزة بالجمال والقدرة على الإدهاش. ولعل قارئ مجموعتي (القنفذ) و(لماذا سكت النهر) لزكريا يلاحظ أنه امتلك، في هاتين المجموعتين تحديدا، عينَي طفْلٍ وشاعرٍ في أعماقه، واستطاع خلقَ كونٍ أدبي متخيَلٍ يتسم بالغرابة والمفارَقة، وأن قصة (النيام) في مجموعته (القنفذ) لا تحيل إلى مرجعٍ متوهمٍ يمكن مطابقته مع عناصر البنية الفنية التي شكلها، بل تخلق كونا أدبيا يمتلك الاستقلاليةَ النصية الكاملةَ عنه، وأنه قام فيها بتحريك الأشياء الجامدة، ومنَحَها صفاتٍ ليستْ لها في العرف والمواضَعة والاصطلاح، إذ إن الطفلَ، في القصة، يلصق أذنيه إلى جذع الشجرة الساكنة، وعندما يخفق في الاستماع إلى قلبها وهو يخفق وينبض؛ يهمس في أذن والده بسعادة: إنها نائمةٌ، وإنها تختلف كثيرا عن البشر لأنها تغفو، ويغفو قلبها معها أيضا. أما في قصتَيْ (شجرةٌ جديدةٌ في باحة بيتنا) و(الذينَ يتكلمونَ) فيقوم زكريا بهجاء الإنسان العربي المعاصر لعجزه عن التعامل مع عناصر الطبيعة الحية بشاعرية، وإخفاقه في وضع يديه على عناصر الثراء التي تكتنزها بسبب حالة التخشب والضحالة العاطفية التي يعيشها، والتعامل معها بصفتها كائنا جامدا لا يمكن أن يتكلمَ، أو يثوي في داخله متنٌ حكائي زاخرٌ بالعجائبية والغرائبية، وقابلٌ للأسطرة. وكذلكَ يعمد، في قصة (أخبار الحائط) إلى تحريك الأشياء الجامدة، وبث الحياة فيها واستنْطاق ما تختزنه في أعماقها من مشاعرَ إنسانيةٍ؛ إذ تعود البشر على وصف منْ لا يحسن تبادلَ المشاعر الرهيفة مع الآخرينَ في مواقفَ إنسانيةٍ معينةٍ بأنه (حائطٌ) لا يحس، في حين أن الكاتبَ شخصَ الحائطَ في المتن الحكائي، وجعله أنموذجا للكائن الإنساني المفعَم بالمشاعر العاطفية الجياشة، كما تعامَل مع العناصر الجامدة على أنها حيةٌ، وتكتنز مشاعرَ رهيفة، وجعَل (الحائطَ) يحزن، ويبكي لفراق العائلة عندما تغادر البيتَ القديمَ الذي تسكنه إلى منزلٍ آخرَ، كما هجا في قصة (آكلو الغزلان) توحشَ الإنسان العربي، وإخفاقَه في الاستمتاع بما يحتويه الكون من جمالٍ وإدهاش، وأدانَ عجْزَ الكبار عن الاستمتاع بالمخلوقات الوديعة كالغزال، وإقبالَهم على أكْلها بدلا من مصادقتها، والاكتفاء بالنظر إليها، والاستمتاع بما تختزنه من وداعةٍ، ورقةٍ، وكياسةٍ.

وهكذا نجد أن قصص زكريا تامر اكتنزت من المجاز والموارَبة ما يفتقر إليه كثيرٌ من النصوص الأدبية المنشورة في هذه الأيام، وطفحت برؤيا غرائبية لا تزال تثيـر دهشتنا كلما قرأناها، وتحثنا على ملازمتها والعودة إليها لنتعلم منها كيف نتواصل مع الطبيعة، ونبقى قادرين على الاستمتاع بما تشتمل عليه من ثراءٍ وعناصرَ إدهاشٍ بغية إيقاظ الطفل الهاجع في أعماقنا، ومنْحنا القدرةَ على رؤية العالم بعينين جديدتين.

ناقد سـوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي