حين قدَّمت مصر الحرية الفكرية في الشرق كله

2023-12-13

عاطف محمد عبد المجيد

يقينا ليس هنالك عدد يضارع عدد شهداء الحرية الذين يتساقطون يوما بعد يوم، في طريقهم إلى الحرية التي يحلم بها الجميع، ويروح ضحيتها كثيرون، ليجني ثمارها كثيرون آخرون. ونظرا إلى أن الحرية ليست سهلة المنال، فإن أعداد شهدائها سيزدادون يوما بعد يوم، وما حدث في السنوات الأخيرة من ثورات عربية اجتاحت بعض بلدان الوطن العربي، إلا دليل على ذلك، فقد راح خيرة الشباب العربي شهيدا، وهو يحاول البحث عن حريته.

قصة الحرية

عن كتابه الذي كُتب في عام 1927 وسماه «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» وصدرت منه عدة طبعات عن عدة دور نشر، يقول المفكر الراحل سلامة موسى الذي رحل عام 1958: هو قصة الحرية الفكرية وانطلاق العقل البشري من قيود التقاليد، وفوز التسامح على التعصب، مع ذكر ما لقيه الأحرار من ضروب الاضطهاد من أقدم العصور إلى الآن.

بداية لم يكن سلامة موسى مفكرا وحسب، بل كان واحدا من رواد النهضة العربية الكبار، وكان رائد الاشتراكية المصري الأول. لقد آمن موسى بأن تحرير الطبقات الفقيرة من عبودية الاستغلال الطبقي، لا بد أن يبدأ بتحريرها من العبودية للخرافة والأسطورة. يستهل موسى كتابه هذا بمقالة قصيرة يسميها شهوة التطور وفيها يقول، إننا لم نعرف قط إنسانا تقدم للقتل راضيا، أو كدَّ نفسه حتى مات في سبيل أكلة شهية يشتهيها أو عقارا يقتنيه، وإنما سمعنا عن أناس عديدين تقدموا للقتل من أجل عقيدة جديدة آمنوا بها، ولم يقرّهم عليها الجمهور أو الحكومة، متسائلا، ما معنى هذا؟ مجيبّا أن شهوة التطور في نفوسنا أقوى جدّا من شهوة الطعام أو اقتناء المال، وأن هذه الشهوة تبلغ من نفوسنا أننا نرضى بالقتل في سبيل إرضائها، وأننا لا نقوى على إنكارها وضبطها، مضيفا أن الحياة من دأبها التحول من أدنى إلى أعلى، والتجدد باكتساب عناصر مما حولها، وتنقية ما فيها مما هي في غنى عنه. كذلك يستطرد الكاتب قائلا، إن الاضطهاد الذي أصاب حرية الفكر والاستشهاد الذي رضي به الأحرار ليس سوى صراع اصطرع فيه الجمود والتطور: جمود القاعدة الاجتماعية مع تطور الحياة، والفوز دائما للتطور على الجمود.

محاكم التفتيش

في جزء الكتاب الأول يتحدث موسى عن حرية الفكر في العصور القديمة، كما يتحدث عن الإغريق وعلاقتهم بالحرية الفكرية، وكذلك علاقة الديانة المسيحية بالحرية الفكرية واضطهاد الرومانيين للديانة المسيحية، ولا ينسى أن يتحدث عن محاكم التفتيش، التي نشأت في كل مكان وكانت تحاكم الناس على كل شيء، وأشهر هذه المحاكم المحكمة المملوكية في إسبانيا والمحكمة المقدسة في رومية. وقد ظلت محاكم التفتيش طيلة أكثر من خمسمئة سنة قُتل خلالها الآلاف، ولم يكن هؤلاء المقتولون من العامة أو من الدهماء، بل كانوا من خيرة الناس، والعلماء والمفكرين كانت لهم كرامة فكرية لا يبيعونها بنفوسهم وكان لهم ضمير يأبون الزنا عليه.

مجرد احترام

بعد ذلك يتحدث موسى عن التسامح في الإسلام ناقلا قول المستر دريبر، وهو أحد المؤرخين وكبار الفلاسفة: إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين، ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوّضوا إليهم كثيرا من الأعمال الجسام ورقّوهم إلى مناصب عليا في الدولة، حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا ماسويه.

وفي مقالته الجمهور والاضطهاد يقول موسى: إن موضوع هذا الكتاب هو اضطهاد الحكومات للناس لكن قد يكون الجمهور هو الباعث للحكومة على الاضطهاد، كما رأينا في الأندلس وقد يعمد الجمهور أيضا إلى أن يأخذ الأمر بيده مباشرة ويضطهد الخارجين على عاداته في الدين أو غير الدين، في حين تكون الحكومة متسامحة راضية بوجود هؤلاء الخارجين.

أما في الجزء الثاني من الكتاب فيتحدث موسى عن حرية الفكر في العصور الحديثة مارّا بإرهاصات النهضة الأوروبية التي شملت جملة مناحي النشاط الفكري، ولا يفوته أن يشير إلى أن الثورة الفرنسية لم تكن فرنسية فقط، بل كانت ثورة عالمية، ذاكرا أنه من هوس الثورة أطاحت المقصلة بألف واربعمئة رأس بلا ذنب، أو بذنوب طفيفة. غير أنه بعد كل ذلك هدأت العاصفة وعرف الناس قيمة التسامح، وصار لأحرار الذهن أن يعيشوا ويجاهروا بآرائهم أمام المسيحيين واليهود.

محمد عبده

وعن تطور الحرية الفكرية في مصر يقول موسى إن النهضة الفكرية الحاضرة في مصر ترجع إلى عهد إسماعيل، ولا تكاد تكون لها علاقة بنهضة محمد علي، إما لأن نهضة محمد علي كانت ناقصة في ذاتها، وإما لأن عباس وسعيد قد قطعا الصلة بين نهضة محمد علي، ونهضة إسماعيل. ثم بعد ذلك يذكر العنت العظيم الذي لقيه الشيخ محمد عبده من علماء الأزهر نتيجة لاجتهاده ومخالفته المأثور. أما قاسم أمين فيضعه موسى في طليعة العاملين للحرية في مصر، مضيفا أن مصر قدمت الحرية الفكرية في الشرق كله بمطبوعاتها وصحفها، ونبغ فيها كُتَّاب يدعون إلى حرية البحث في الدين والعلم والأدب.

ثم يختتم سلامة موسى كتابه هذا بمقالة سماها تبرير الحرية الفكرية وفيها يقول: لا يبرر الحرية سوى منفعتها، ولا يبرر تدخّل الحكومة ومنعها الناس من حرية التفكير سوى حقها في الدفاع عن النفس وحماية الجمهور من أذى مباشر.

وبعد.. سيظل الإنسان يبحث عن حريته، فإن امتلكها كان جميلا له ولحياته ولمجتمعه، وإن حُرِم منها، مات شهيدا من أجلها.. ألا فليعقل القامعون هذا وليدركوا أن القمع قصير العمر مهما امتلك القامعون من أدوات وأساليب.

كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي