
صنعاء (الجمهورية اليمنية) - أينما اتجهت في صنعاء لابد أن تجد فلسطين؛ فقد صارت حاضرة في كل تفاصيل المكان والإنسان، فإما من خلال العلم الفلسطيني، الذي يعتلي معظم المباني وتزدان به اللافتات والمطبوعات، حتى دعوات حفلات الزفاف صارت تزدان بذات العلم، أو من خلال الكوفية الفلسطينية التي صارت على اكتاف الناس بكثرة لافتة كعلامتين تؤكدان مدى اصطفاف المجتمع اليمني في موقفة الشعبي مع المعاناة الفلسطينية، التي بلغت ذروتها مع رفض هذا المجتمع واستنكاره الشديد لهمجية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وانحيازه للحق الفلسطيني؛ وتأييده لأي فعل ينتصر للمظلومية الفلسطينية؛ وهو موقف تجاوز القول إلى الفعل والاستعداد للمعركة أيضًا فيما يُعرف بالجيش الشعبي، وفقا لتحقيق لمراسل القدس العربي في العاصمة اليمنية صنعاء الزميل أحمد الأغبري .
جميع المكونات المدنية في اليمن من أحزاب يسار ويمين ووسط، ومنظمات مختلفة حقوقية وإغاثية وتنموية وغيرها تماهت مواقفها تمامًا مع فلسطين، التي شهدت في السابع من تشرين الأول/اكتوبر زلزالاً أيقظ العقل العربي من سبات كاد أن ينال من وعيه بعروبة القضية الفلسطينية وإنسانيتها؛ إذ استفاق تحت ضربات معركة المقاومة الأخيرة، بل كأني به صار الآن متحررًا من كل تلك الرواسب، التي كادت تقترب من تذويب موقفه من الاحتلال لينساق مع دعاوي التطبيع والصهينة، بل لقد كادت تلك الرواسب أن تسد على العقل العربي نوافذ الرؤية صوب الحرية، التي ينزف في سبيلها الجرح الفلسطيني منذ أكثر من سبعة عقود؛ حتى اقترب العقل العربي من العمى عن رؤية كل ذلك؛ فكان “طوفان الأقصى” الاستفاقة العربية الحقيقية والمعول الذي تهدمت تحت ضرباته دعاوي المطبعين وأزلام الصهيونية، بل لقد كشف لنا زلزال السابع من أكتوبر مَن كانوا بين ظهرانينا من صهاينة عرب؛ ممن اعتنقوا التطبيع تحت هوى المكاسب والمصالح والآفاق الضيقة.
عقب ذلك صار العقل اليمني، في معظمه، في حال استنفار شديد؛ وهنا لن نتحدث عن الجيش الشعبي الذي يعده الحوثيون في سياق ما يعتبروه ضمن التعبئة استعدادًا للمواجهة من إسرائيل؛ وإنما سنكتفي بالإشارة فقط إلى الأطفال في المدارس والشوارع، الذين باتوا يحرصون على ارتداء الكوفية وتطعيم أزيائهم المدرسية بالعلم الفلسطيني، بل إن طوابير الصباح باتت تعج بالأناشيد والأغاني الحماسية، التي جددت لدى الناشئة اليمنية وعيًا مختلفًا بالقضة الفلسطينية؛ وهذا لا يحسب لأحد، بل يُحسب على للسابع من أكتوبر أولا، وثانيًا ايمان اليمنيين المتأصل بحق الشعب الفلسطيني كامتداد للشعب العربي، الذي آن الآوان أن يتجاوز حالة الاستلاب ليسجل موقفًا أمام الوجع الفلسطيني، الذي يصرّ الغرب على تجاهله؛ فكان هذا النزيف أشبه بوصلة إعادة الاعتداد بالذات العربية على طريق الانتصار للحلم الفلسطيني. ونقول بشفافية إنه يُحسب لجماعة “أنصار الله” أنهم أقروا في جميع التخصصات الجامعية في مناطق سيطرتهم مادة “الصراع العربي الإسرائيلي”.
في كل الفعاليات التي تشهدها صنعاء؛ على اختلاف مجالاتها تحضر فلسطين في مجمل الخطاب، الذي ينثال في كل تلك الأنشطة، في المنظمات والأحزاب والوزارات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، بموازاة فعاليات مخصصة لفلسطين بعناوين مختلفة؛ كالفعالية التي نظمها مركز الحداثة والتنوير الثقافي الخميس بصنعاء على رواق بيت الثقافة نصرة لصمود فلسطين الأسطوري الذي مزق وعد بلفور.
أبعاد النصر ومهام الاستمرار
انطلقت الفعالية بقراءة ثقيلة الوزن لأحد علماء علم الاجتماع العرب، وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعتي صنعاء وعدن، حمود العودي، وهو رئيس لمكون وطني للمصالحة، والذي توقف مليًا أمام ما اعتبره “أبعاد النصر ومهام الاستمرار” وقال إن حركتي حماس والجهاد قد فعلتا (في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر) ما لم تقو عليه كل الدول العربية وأنظمتها السياسية منذ عام 1948 وحتى اليوم، إذ استطاعتا تجاوز كل القدرات الاستخبارية العسكرية الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية، لقد غيّرت مجرى الأحداث والمعايير الوطنية والقومية والدولية، وفاجأت العالم بما لم يكن يتوقعه، فكل هذا قد صار مقروءًا ومشهودًا والأهم من ذلك – يقول- وبالإضافة إليه هو أمران: الأول أبعاد ودلالات هذا الفعل التاريخي العظيم، والدروس المستفادة منه، والثاني هو تدبر الكيفية الضامنة لبقائه واستمراره.
وقال إن في أبعاد ودلالات انتصار حماس وهزيمة إسرائيل سقوط خرافة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وافتضاح الوجه المزيف للديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب الأمريكي، وبروز الوجه القبيح للعنصرية الصهيونية والنازية القديمة الجديدة.
وأضاف: لقد استعادت قضية الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية من دائرة التآكل والنسيان إلى مقدمة الاهتمامات الوطنية والقومية والعالمية. كما تم إسقاط شرعية النظام السياسي العربي تجاه شعوب الأمة وقضاياها المصيرية، ودق جرس التغيير الوطني الديمقراطي والوحدوي القومي لإرادة الأمة وشعوبها. كما تم تغيير المسار السياسي والتاريخي لكل حسابات ما قبل 7 تشرين الأول/اكتوبر قياسيًا بما بعده فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا. كما تم تأكيد حقيقة وقانونية أن إرادة الشعوب الحرة وقضاياها العادلة هي التي لا تقهر تجاه أي ظلم أو عدوان مهما بلغ أو ظن نفسه من القوة.
وفيما يتعلق بالمهام المطلوبة للثبات والاستمرار فأكد العودي “أهمية أن يطلق صوت وفعل حركة شعبية ووطنية مدنية يمنية وعربية لرفد ثورة شعبنا وأهلنا في فلسطين غزة والضفة والقدس تباشر القول والفعل من خلال: تعزيز المسار الوطني والقومي والعربي والإسلامي والعالمي الشعبي المتصاعد تجاه نصرة حقوق الشعب الفلسطيني وثورته من أجل ذلك، ومقاضاة النظام الصهيوني الإسرائيلي دوليًا على قدر ما ارتكبه من جرائم الحرب، بالإضافة إلى التركيز على دراسة أبعاد ودلالات جرائم إسرائيل في مقابل شرعية مقاومة وثورة حماس والجهاد والشعب الفلسطيني كله، وتحويلها إلى برامج فكرية وسياسية وثقافية واجتماعية ودينية يتسلح بها الرأي العام الوطني والقومي والعالمي في معركة المواجهة مع الكيان الصهيوني والاستعمار العالمي القديم الجديد”.
ونوه العودي “بأهمية التركيز على دراسة الرأي العام العالمي المتحضر والمتصاعد الآن لصالح القضية الفلسطينية، وتعزيز التواصل والتكامل معه ومأسسته، وقطع الطريق على الحركة الصهيونية العالمية من الهيمنة عليه مرة أخرى. كما لابد من العمل المكثف والسريع من جانب القوى السياسية والمدنية والشعبية اليمنية للتواصل والتكامل مع كل الجهود الوطنية والقومية العربية والإسلامية والشعبية في جبهة نصرة عربية إسلامية واحدة مع ثورة الشعب الفلسطيني حتى استعادة حقوقه كاملة غير منقوصة”.
وأكد أهمية تحديد موقف واضح من تخاذل النظام السياسي العربي تجاه ما جرى ويجري في غزة وعموم الأراضي الفلسطينية، وذلك بالضغوط عليه للقيام بمسؤوليته التاريخية من خلال: سرعة قطع العلاقات وإنهاء التطبيع بكل أشكاله واستعادة نظام المقاطعة لإسرائيل. كما أن على هذا النظام وقد ضربت عليه عصاة الذل والمسكنة أن يسخر جزءا بسيطا من إمكانيات وحقوق الأمة في دعم وإسناد ثورة الشعب الفلسطيني. كما أن مسؤولية هذا النظام السياسي العربي اليوم للحفاظ على ما تبقى من ماء وجهة هو ألا يفتح باب الجهاد الحق ويقوده قط لأن فاقد الشيء لا يعطيه، بل إن ما لا مفر منه هو أن يسهل حق الأمة في نصرة أهلها ومقدساتها في فلسطين لا بعدم منعهم من الذهاب إلى ميدان الجهاد فحسب، بل وواجب ترك الأمة في دعمهم وغض الطرف عن ذلك على الأقل؛ لأن فرض الجهاد مع الشعب الفلسطيني اليوم هو ما يميز الصادقين من الكاذبين والمؤمنين من المنافقين”.
وأعرب عن تقديره لما اعتبره دعم إيران للمقاومة الفلسطينية غير المحدود، والذي لولاه – كما يقول- لما كان في مقدور المقاومة أن تحقق ما حققته، وتصل إلى ما وصلت إليه، معبرًا عن التقدير أيضًا لما اعتبره دور وموقف حكومة الإنقاذ في صنعاء سياسيًا وعسكريًا المتجاوز لكل المواقف العربية حد تعبيره.
وقال مستدركًا: إلا أننا كشعب في اليمن نطالب حركة “أنصار الله” أن تكون سباقة لفتح باب الجهاد الحق، كما نطالب قيادة محور المقاومة العربية في جنوب لبنان لأن تفتح الأرض والحدود لجهاد الأمة داخل الأراضي الفلسطينية جنبًا إلى جنب مع الشعب الفلسطيني.
المقاومون الجدد.
من جانبها توقفت أمين عام اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، هدى أبلان، أمام معاناة الشعب الفلسطيني، “وهو يعيش هذه اللحظات العصيبة من تاريخ أمتنا، والتي يباد فيها الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع من العالم، الذي أثبت أنه بلا ضمير، وهو يشرعن هذا القتل البشع في صفوف الأطفال والنساء والشيوخ، وقد وصلوا إلى عشرات الآلاف في أرض محاصرة مضطهدة منذ سنوات، وأقرب حبال النجاة إليهم هي الصعود إلى السماء”.
وقالت: رغم ما يثلج الصدور من مقاومة هزت عرين الكيان الصهيوني، وكسرت أيقونة الجيش الذي لا يقهر والمخابرات التي لا يشق لها غبار، أثبت هذا الجيل الجديد من المقاومين قدراتهم الفذة التي أرعبت الكيان، وأعادت التوازن إلى الروح العربية المهزومة منذ عشرات السنوات، وهم مقاومون انبثقوا من طين الأرض الفلسطينية، زادهم ووقودهم إيمانهم بحقهم المسلوب، الذي لا تعيده إلا القوة؛ كونهم يحاربون عن كل العرب والمسلمين، الذين تُداس مقدساتهم، ولا يملكون إزاءها إلا الصراخ والتنديد والشجب والاستنكار.
وأضافت: المعادلة تغيّرت، وهؤلاء المقاومون الذين لا يمتلكون إلا القليل من القدرات، هم من غيّروا المعادلات كلها رغم قسوة الضحايا الذين يسقطون كل ساعة، ويملؤون الروح فجيعة وقهرا.
زعامات حماس
فيما جاءت كلمة رئيس اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، يحيى منصور أبو أصبع، تُحيي من اعتبرهم زعماء حركة حماس في الميدان، وفي المقدمة منهم يحيى السنوار ومروان عيسى ومحمد ضيف وأبو عبيدة. وقال: ينبغي أن نجعل من هؤلاء العظماء قدوة لنا على طريق استعادة مجد الأمة، الذي مزقه اتفاق سايكس بيكو ووعد بلفور. ما يجري في غزة من حرب إبادة وحشية قال الكثير من المحللين إنه لم يحدث شبيه لها في تاريخ العالم، إذ لم يشهد شعب إبادة من البر والجو والبحر مع قطع المياه والاتصالات والكهرباء وقطع الغذاء كما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم في غزة.
وأضاف: الأنظمة العربية، وعلى وجه الخصوص أنظمة التطبيع، يقولون لإسرائيل وأمريكا إن انتصار حماس هو نهاية لعروشنا وكراسينا وبقائنا على هذه الدول. انظروا إلى واقع العراق الذي صار ثلاثا، وانظروا ما آل اليه الوضع في سوريا، حتى مصر أفرغوها من عوامل قوتها.
وقال: هل تعرفون ماذا أنجزت كتائب القسام ومعها كل الفصائل؟ لقد أسقطوا أسطورة الاستخبارات الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية، وخلال ساعات استطاعت المقاومة أن تقدم مثالا لما يمكن أن نقوم به على طريق استعادة الحق الفلسطيني. كما قدمت المقاومة في تعاملها في الأسرى مثلا لأخلاق الإسلام. الإنجاز الآخر هو ما يحصل اليوم في أوروبا المعبأة منذ عشرات السنوات ضد الإسلام والعروبة، بينما صار هناك اليوم وعيًا جديدًا مع الحق الفلسطيني.
كلمة ممثل حركة حماس بصنعاء، معاذ أبو شمالة، توقفت أمام الدور اليمني في مساندة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، كما تحدث عما تقدمه المقاومة من صور الانتصار للقضية، والخسائر التي يُمنى بها الاحتلال كل يوم أمام مقاومة مازالت تمتلك الكثير من القدرات والقوة.
العقل اليمني الذي يتجلى في مجمل الفعاليات المكرسة لفلسطين في حال استنفار شديد، يجد نفسه في خط المواجهة اصطفافا مع فلسطين كطريق لا رجعه عنه، كما قال أحدهم.