الكتابة في الأزرق والأخضر

2023-08-31

قاسم حداد

منذ اعتدت على الكتابة في الريف الألماني، اعتدت على شتاء الغابات التي لن تشعر بها مثلما في أوروبا. كانت البداية في بيت هاينريش بول عام 2013، كان شتاء كثير الثلوج، وهذا يجعلك. تستهلك الكثير من النبيذ الأحمر، وكنت وقتها أكثر في وجباتي المسائية من اللحم، الذي يتطلب حمرة النبيذ.

٭ ٭ ٭

كان الليل هناك أطول من النهار، كعادة الوقت في العالم. تعودت على السهر بشكل دائم. وفي ذلك الشتاء أنجزت النصوص التي رافقتها مع الصور الجميلة التي أنجزتها ابنتي طفول، في كتاب «يوميات بيت هاينريش بول».

٭ ٭ ٭

أول الأمر قلت: أقرأ، مكتفيا بالاكتشاف. طفقت أجد ما هو جدير بالفرح، اكتشف ما لا أعرف من العوالم المتخيلة. الروايات، عالم متخيل من آخرين، بعضهم أعرفه شخصياً، حتى إنه عندما رفض جائزة نهايات القرن وبداية القرن، شعرت بأنه لم يخذلني. هذا عالم جدير بالاكتشاف.

٭ ٭ ٭

بعد ذلك، التفتُّ إلى الغيرة في الشخص،

قلت: هذا لا يكفي، عرفتُ الطريق نحو الكشف. نزعت إلى الكتابة، وتمنيتها.

طفقت أكتب، وحولي ما لذ وطاب من الجبن والنبيذ. مزّات المشرق وأشربة الغرب من كل نوع. عتيقٌ ويتعتق مع الوقت. فيما اكتب، بدأت في اقتناء أقدم الأنبذة.

٭ ٭ ٭

بعد أن حصلا على التقاعد، وكانت العائلة قد وقعتْ في عشق الريف الألماني، وتيسرت لابنتي وزوجها فرصة العثور على بيت في ريف (برلين). في قرية بعيدة اسمها هوهندورف في مدينة غولزن، وبعد قليل من الترميم صار صالحاً للسكن بشكل مريح. ورافقنا انتقالهم للسكن في بيت الريف الألماني، واكتمل الحلم بعد أن تخرجت حفيدتي من المرحلة الثانوية في البحرين، مستعدة للانتقال إلى المرحلة الجامعية، فالتحقت بجامعة شتوتغارت في ألمانيا، لتدرس تاريخ الفن.

٭ ٭ ٭

وبدأت أكتب هناك، حيث الريف والغابات.. وشعرت بأن للمكان تأثيراً لا يستهان به، وإذا بابنتي وزوجها يبادران إلى إعداد غرفة خاصة لي، شيء يجعل عزلتي أكثر خصوصية وهدوءاً. فصار النبيذ رفيقاً يؤثث الغرفة والعزلة.. في تلك الغرفة صارت الكتابة في الغابة أفقاً نوعياً، من شأنه أن يضيف إلى عزلتي تحولاً عميقاً.

٭ ٭ ٭

ربما تعلمتُ في هذه التجربة الفرق بين الكتابة في بحرين أزرقين، والكتابة في غابة وريف أخضرين. ليس ثمة لون بريء في الكتابة، كل الألوان تتصل بنا ونتصل بها. ففي اللون روح شفيف من التعبير عن الذات. لذا أحب أن أرى في الطبيعة ما يجعل الكتابة تحولات روحية في النص. ففي هذه الطبيعة تحولات الفروق الروحانية في أشكال التعبير وإمكانياتها.

٭ ٭ ٭

بين عادات الكتابة وبيني ما يمنح الحلم شهوة النص، حيث أكتب ما أحب، بالشكل الذي أحب. بيننا روحٌ تتنفس من هواء الكتابة كلاماً حميماً، يهمس للقلب كلمات الحب. بيننا الوعي المتصاعد مثل رحيق في الأزهار، بيننا عبّاد الشمس وهو يؤدي صلاته المباركة مثلما كان يفعل الأولون لشمس النهار. بيننا نبيذ الغابات والأقداح عطشى لما تحلم به الكتابة والحلم.

٭ ٭ ٭

يبقى أن الليل الأطول من النهار، ليس في الطبيعة وحسب، ولكن في حياة المجتمع، حيث لا يزال يوهمنا بأنه الأطول، يبقى إننا صرنا نكتشف كيف أن الطبيعة كانت تستدرج الكتابة، وتجعل الأبجدية تضيق على الكتابة، وتطلق الكلام في الحياة. يبقى أن بيننا وبين النص حياة تولد. حياة تمتزج فيها الطبيعة بالإنسان بطريقة فعالة وحيوية، بحيث يظهر لنا اللون وهو سيد الطبيعة، فالغابة أصبحت قادرة على إقناع البرتقال بالأخضر.

٭ ٭ ٭

أما عادة الكتابة في الظلام، فتلك حكاية اخرى.

كاتب وشاعر بحريني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي