أني أرنو كاتبة «السنوات»: نحن أبناء القرن العشرين كيف استطعنا تحمّله؟

2023-08-19

حسن داوود

تبدأ أني أرنو كل فصل من فصول كتابها باستقراء إحدى الصور. هي اثنتا عشرة صورة، أضافت إليها مقاطع خاطفة من شريطي فيديو، نقلت مراحل حياتها المتدرّجة من ولادتها حتى منتصف ستينياتها. هكذا، بادئة بتأمل نفسها في الصور، كما لو أنها تحدّق، وهي في أعمارها المختلفة، بالمرايا المتبدّلة مع الزمن، داعية إيانا إلى أن نقرأ كل تاريخها الشخصي. ولا شيء من هذا التاريخ جرى طيّه أو إخفاؤه تحرّجا من الكشف عن الحميمي الذي ينبغي أن يظلّ مغلقا عليه في صندوق الذاكرة.

كل التغيّر الذي تأتي به السنوات على الأفكار والهواجس والعلاقة بالجسد وحاجاته تناولتها الكاتبة، ربما بالإلماح أحيانا، أو بالإفصاح القليل المكتفي أحيانا بإعلانها متى بدأت، لوحدها، تلبية إلحاح رغبتها الجنسية. يرجع ذلك الاقتصار على أن الكتاب ليس عملا روائيا، ولا سيرة شخصية. فهنا، الصورة، أو الصور، الدالة على العمر، دالة أيضا على الزمن العام، فعلى الدوام، مع كل فصل من فصول الكتاب، يتدرّج استقراء الصور نحو ما يتعدى التفكير بالذات. مثلا، في تذكّر الكاتبة للسنوات التي أعقبت مباشرة الحرب العالمية الثانية، نجد أنفسنا قارئين لمشاهد وأحوال تتصل بما أحدثته الحرب في المجتمع الفرنسي وغيّرت في مسالك حياته وتقاليد عيشه. والكاتبة تستتبع ذلك، في الفصول اللاحقة، واصفة أحوالها وأحوال مجتمعها، وصولا إلى توقّفها عن متابعة سردها وهي في الستينيات من العمر.

ليس فقط أنها تذكِّر، أو تستعيد ما جرى في توالي السنوات، بل هي ترسم ذلك العالم المتبدّل، واضعة ما هو أقل شأنا في مصاف الأعلى شأنا. من ذلك مثلا أن الحروب، التي نقرأ عن كل مسارحها العالمية، من الحرب العالمية إلى كل الحروب الفرعية التي أعقبتها، بالاهتمام ذاته الذي نقرأ به عن الأدوات المنزلية التي استجدّ ظهورها على المطبخ الفرنسي. هنا تأتي أهمية هذا التناول ليس فقط من مساواة ما هو «وضيع» بما هو «عظيم» بل من شمول النظرة وبلوغها ما لا يُلاحظ غالبا، أو ما لا يُرى، أو ما يُغضّ النظر عنه، وجعله دالا على ما هو مؤثّر وأساسي في العيش.

هو كتاب في السوسيولوجيا، كما في السياسة، وفي الأزياء والموضة، كما في الغناء والثقافة والأدب. يصعب أن يكون قد عبر شيء في ذاكرة مَن عاشوا في تلك السنوات وأُغفل ذكره هنا. يبلغ ذلك حدّ أن نقول أن الكتاب يمكن أن يُستخلص منه كتيّب عن رؤساء فرنسا المتعاقبين، وكتيّب عن الأغنيات التي تعاقب ظهورها في تلك السنوات، وكتيّب آخر عما غيّرته سنة 1968 في وعي الفرنسيين ورغباتهم في ما يتصّل بنواحي حياتهم كلها، ومن ذلك تغيير المراتب تجاه الأشخاص والأفكار والأمكنة: «فالعديد من المواقع التي كان استعمالها خاضعا منذ الأزل لقواعد متفق عليها (الجامعات، المعامل، المسارح) صارت مفتوحة أمام أي كان». ومن مظاهر التغيّر الذي أحدثته تلك الثورة، أيضا، «وانتهينا من الكياسة في الكلام، من اللغة اللبقة المهذّبة».. «كانت الأصوات المدوّية تقول الأشياء بلا كياسة، ويقاطع بعضها بعضا من دوم اعتذار». وفي مكان آخر من ذلك الفصل، تعلن أرنو بجملة مقرّرة حاسمة: «كانت سنة 1968 السنة الأولى للكون».

ذاك الحيّز الواسع والاحتفالي الذي خصّصته أرنو لثورة 1968 يدلّ على إيلاء الاهتمام الأشد بكل تغيّر، ذلك لأن الكتاب يختصّ أولا بفرنسا، حيث «السنوات» هي سنواتها، وإن كان ما يحدث فيها آنذاك تصل مفاعيله إلى بلدان العالم الكثيرة.

مع كتاب أرنو لسنا إزاء متحف عرضت فيه أفكار تلك السنوات الستين وأحداثها. فتلك النبرة الشخصية التي ترافق ذكر الكاتبة وهي تعلن رأيها حيال أي شيء، تحوّل مجريات الخارج إلى همّ ومعاناة داخليين. فها هي تنقل الآراء التي عبّر عنها مجايلوها، المختلفون تبعا لأعمارها المتتالية، تنقلها كما لو أنها بنتيجة غضبها وسخطها هي. ذلك يتعلّق خصوصا بسياسيين كانوا في سنوات سابقة قادة تاريخيين. الجنرال ديغول، الذي اعتبرته في سنوات ما بعد الحرب منقذ فرنسا وبطلها، تحول في فصل لاحق إلى عقبة ينبغي التخلّص منها، كذلك كان حالها مع فرانسوا ميتران، المبجل في بداياته، والذي تحوّل إلى رجل ينبغي عليه الرحيل الفوري. لا يبقى السياسيون، وكذلك السياسة وعهودها، على حالهم. فانقلاب الأحوال رأسا على عقب، لا يوفّر هؤلاء أبدا. وهذا ما يجعل الزمن جارفا كل ما سبق لهم أن كانوا أبطاله وقادته. لم يصعد نجم سياسي في فصل من الكتاب إلا وتراجع أو هوى في فصل لاحق منه، ذلك لا ينطبق على مغنين ومغنيات كثر لم يخبُ ذكرهم مع أجيال تلت زمنهم، كما لا ينطبق على أشياء وأحداث سبق أن اعتبرت فردية وقليلة الشأن.

كتاب «السنوات» لأني أرنو الحائزة جائزة نوبل عام 2022 نقله إلى العربية مبارك مرابط لمنشورات الجمل في 270 صفحة سنة 2023.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي