قولٌ في التخفّي ومفاتيح الحوار المفقودة!

2023-07-12

عُلا شيب الدين

ليست وجوهنا مجرد عيون تعلوها حواجب، ولا أنوف، أفواه، جبهات، وذقون.. بل هي أبعد من ذلك بكثير، حتى إني أكاد أجزم، أنها ـ في معنى ما ـ أحد هوياتنا.. هويات تخفي الكثير بقدر ما تكشف الكثير. قد تكون عيوننا متشابهة في اللون، أو في الشكل اللوزي، وطبيعي أن تكون لنا جميعاً عينان مكونتان من الأقسام نفسها: قزحيّة، قرنيّة، حدقة، ملتحمة، عصب بصري، شبكيّة، وهذه كلها تشكل هوية طبيعية حيوية بيولوجية للعين، حتى إن لقزحية العين بصمة، من شأنها أن تُسهم في تحديد هوية الشخص، وهذا أحد فروع علم المقاييس الحيوية.

لكن هل للعين تلك الهوية الحيوية فقط؟ أم أن لها هوية/ هويات أخرى؟ في محاولة الإجابة عن سؤال كهذا، ربما نكتشف أن ثمة هويات أخرى أعمق موجودة، وما تلك الهوية البيولوجية الحيوية، إلا هوية سطحية، أو قشرة لهويات أخرى، أو ربما هي مجرد أداة هوياتية من شأنها أن تفضي إلى هويات أخرى.. أداة هي بمثابة نافذة يؤدي فتحها إلى انكشاف عوالم هوياتية أبعد، أوسع أرحب أشمل.. وأعمق. هويات عامة بشرية تخص الإنسان عموماً، وهويات خاصة تخص الفرد الإنساني في تعيّنه الخاص المتفرّد. كيف لا والعين ملازِمة للنظر العقلي، للبصيرة.. وللرؤيا كما للرؤية.

هكذا، فإن كل نظرة من العين ربما تشفُّ عن سرور ما في النفس، عن حزن ما، عن طريقة تفكير وفكر أو فكرة ما في العقل، عن ثقافة ما أو تقليد أو عُرف اجتماعيّ، عن تساؤل ما وفضول، عن حب أو كره… عن زمان/ تاريخ غابر بعيد، أو قريب حديث ومعاصر.. كل نظرة من هذا الطراز أو ذاك، قد تشكل هوية خاصة، فريدة وغير متكررة. وعليه، تصبح عيناي هي إحدى هوياتي كإنسان لا حصر لهوياته. وصحيح أن لي عينين وأن للآخر عينين، وكلها اسمها عيون، وتتكون «طبيعياً وبيولوجياً وحيوياً» من الأقسام ذاتها، لكن الهويات الأخرى لهذه العيون، ليست هي نفسها. إذن: لكل منا عينان بهويات عامة متشابهة، وخاصة لا تملكها سوى عينينا نحن بالذات.

عيناي أنا، هي نافذة على «تاريخي» أنا، على طفولتي، مراهقتي، رشدي، على مراحلي.. على لحظاتي، تجاربي، مهاراتي.. إخفاقاتي.. نجاحاتي.. انهزاماتي، أيامي ولياليّ.. انكساراتي.. انتصاراتي، آلامي.. أفراحي، تطلعاتي وأحلامي.. أفكاري. هي نافذة على وجودي وكينونتي أنا.. على ثقافتي البيئية المجتمعية أنا/نحن.. وعلى كل عام وخاص ساهم في تشكيل هوية/هويات عينيّ.

ـ عيناك بدورهما، نافذة على كل ما سبق وربما أكثر!

كل البشر يضحكون، لكن ضحكتي التي تبرق في عينيَّ، غير تلك التي تبرق في عينيك.. وجميعنا نغضب، لكن شكل الغضب الذي تبرزه عيناك وتجسده وتحدده، غيره الذي تمتشق عيناي مهمة نقله إلى الخارج/ خارجي.. خارج نفسي.. خارج عقلي. نفسي وعقلي اللذان ساهم في تشكيلهما وعي مختلف عن وعيك، في بيئة مغايرة لبيئتك ووسطك، وتاريخ مختلف عن تاريخك. إذن: حين تضحك أنت، تضحك بعينين لهما هوية خاصة، مختلفة عن هوية عينيَّ.. بعينين «تعلّمَتا» من حيث لا تدريان ربما، وعبر سنين طويلة ممتدة قريبة وغابرة، إنهما حين تريدان إظهار مشاعر السرور (مثلاً) ينبغي عليهما رسم هذه الخطوط أو تلك، على هذا النحو أو ذاك، في هذه المنطقة أو تلك، خلال هذه الثواني والدقائق أو أكثر أو أقل، أو أن عليهما إيقاد شعلة الحب المتوهجة في مكنونات العقل. والروح والقلب، عبر هذا السائل الشفاف.. عبر ذلك البريق، وتلك اللمعة التي تمهر كل عين بهوية خاصة، لا تملكها العيون الأخرى. ماذا يعني وجهي بالنسبة إلى الآخر، وماذا يعني وجهه بالنسبة إليّ؟

إن جزءاً من كينونتنا كبشر، حين نكون بنَّائين، يُفتَرَض أن يكون الحوار. واجتماعنا المعشريّ الإنساني، ليس بذي معنى، من غير هذا الحوار. أن نتحاور، كبشر وكحضارات وثقافات، يعني أن نأخذ ونعطي، أن نراجع وننقد ونطوِّر.. أن نركّب ونفكك، أن لا نختزل بعضنا ولا نختصر، أن ننسف الأحكام المسبقة والصور النمطية.. وذلك كله، ربما يبدأ أول ما يبدأ بالوجه. نعم في الوجه المحاوِر. بالملامح والتعابير المحاوِرة. فأنت لا يمكنك محاورتي من غير وجه، من غير عينين/ نافذتين تفصحان عن هويتك، مثلما هو أيضاً حقك عليّ أن أحاورك بدءاً من عينيّ المفتوحتين على هويتي/ هوياتي، والمرحِّبة بهويتك/هوياتك. لا حوار دون شفافيّة كهذه. إذ أنه من حقي أن «أرى» رؤيةً بصرية قلبية روحية عقلية، «رؤيتَك» و»رؤياكَ» البصرية القلبية الروحية العقلية. وعندئذ، يتحقق التكافؤ في الحوار، أي في التواصل المعشريّ الإنساني؛ فيصبح لحضوري معك، وحضورك معي، معنى وقيمة.

في لا أخلاقية التخفّي وعدائيّته

لا نقصد في هذه السطور ـ التأملات، تخفّي صاحب رأي وفكر مهدد ودماؤه مهدورة، لدى نظام استبدادي استعبادي قائم على قتل حرية الرأي والتعبير، وقتل الأحرار كاشفي النقاب عن وجه هذا النظام… عن هويته البشعة القاتلة؛ فالحفاظ على الحياة، في مثل هذه الحالة، من طريق التخفّي، قد يكون واجباً على صاحب الرأي الحر أو المفكر أو الفيلسوف المبرهِن. فهؤلاء إنما يتخفون ليكملوا مسيرة إنارة الدروب أمام العقل.. ولا نقصد كذلك، تواري صاحب البيت، خلف ستائر شبّاكه المسدلة، رغبة منه في الوحدة الخصبة والهدوء، والتمتع بخصوصية حميمة لا يبددها ضوء فاجر، ولا فضول فضوليين أجوف، غير لائق. كل ذلك وما شابه، غير مقصود ههنا.

ـ ما نعنيه إذن، هو تخفٍّ آخر واحتجاب آخر.

إن العدل يقتضي، أن «أراك» مثلما «تراني» حين نودّ العيش معا، كبشر متساويين في الحقوق وفي الواجبات. أما أن تحجب وجهك/هويتك أو هوياتك، عني، بينما أنا مكشوف وواضح أمامك، بهويتي/ هوياتي، فهذا ما لا يمت بصلة للأخلاق والمحبة والتفاهم والتواصل الضروري إذا ما أرد البشر بناء مجتمعاتهم بناءً مدينياً ديمقراطياً.

ما الذي يعنيه، أن تكلمني من غير أن «أرى» عينيك، وتتعمد إخفاء وجهك عني ببرقع أو لثام وما شابههما من أقنعة، بينما وجهي أعزل، مكشوف أمامك كسهول قمح ممتدة لا متناهية! لماذا تعتقدني غير جدير برؤية وجهك/هويتك أو هوياتك، بينما يحق لك هذا، وأنت أهل له؟ ولماذا تظن نفسك إلهاً مجرداً غير ملموس ولا متعيّن، يتخذ من السماء مرتعاً أبدياً، أزلياً، بل سرمدياً، مترفعاً عن مخلوقاته على الأرض.. عن البشر الذين يراهم هو من علوِّه المطلق اللامتناهي، من عالمه الميتافيزيقيّ، ولا يرونه هم؟ ألسنا جميعنا بشراً بوجوه؟ ترى أين التكافؤ والمساواة حين أحترم كينونتك، وجودك، وحضورك في هذا العالم، فأكلمك بملامحي الصريحة الحرة، بينما تنسف أنت ذلك كله، عبر تعاليك عليّ بإخفاء ملامحك/هويتك أو هوياتك، وتعتكف خلف بُرقعك ولثامك، فتراني ولا أراك.. وترقبني من مخبئك الأسود! قد يستشف المرء من الأسئلة المطروحة ههنا، أن المحتجِب قوي، من حيث تمتعه بسلطةِ أن يرى ولا يُرى. لكن المسألة قد تكون مختلفة تماماً، فالمحتجِب، القابع في الظلام، المعتكِف خلف جدران رهيبة لا يخترقها النور، هو في حقيقة الأمر، كائن خائف ومذعور.. مذعور وجودياً، ويؤثر تعبئة هويته/هوياته في صناديق، ثم قفلها بأقفال باتت بلا مفاتيح، بعدما وصل الذعر بصاحبها حد رميها في أعماق البحار. المحتجِب، يرعبه النور وحرية النور وبهائه.. يرعبه أن يكون في الحياة، آخر مختلف، بهوية مختلفة، ينبغي الانفتاح عليه والتعرف إليه. يتمحور المحتجِب حول ذاته وينغمس فيها وينصهر، إلى درجة لا يعود معها الموضوع موجوداً. فهو يظن أن العالم كله ذات/ذاته، ويشقّ عليه إدراك معادلة الانفصال/الاتصال، فيظن أن البشر هم عالم سديميّ لا متمايز وكله كتلة واحدة. ولو أنه أدرك الانفصال، والاستقلال، لأمكنه ربما معرفة الذات في قبالة موضوع. الموضوع ههنا هو الآخر الموجود ـ شاء أم أبى ـ بوصفه ذاتاً أيضاً، ذاتا مستقلة بدورها في قبالة موضوع.

وجه المرأة إذ يُوارى

قد يكون المُحتجِب مُخبِراً «يعمل» في أقبية نظام عسكري استبدادي ديكتاتوري.. قد يكون مُلثَّماً أصولياً تكفيرياً متشدداً في تنظيم دينيّ.. قد يكون راسم خطط لدى مافيا تعتمد الجريمة المنظَّمة سبيلاً.. قد يكون جاسوساً.. قد يكون لصاً، وقد يكون متلصِّصاً يرقد خلف اسم وصورة وجه مستعاريْن على مواقع التواصل.. كل هذه ربما تكون أمثلة «أقل» خطراً إلى حد ما، من اعتماد «استراتيجية» طمس وجه المرأة وإخفاء معالمه وتغييبها، بل سحقها. لماذا؟ لأنه في وجه المرأة، يتجلى ربما المعنى الحقيقي للإنسان وحضوره في العالم، كحضور أنثويّ حضاري، وبنّاء. وجه المرأة، يعني استمرار الحياة والأمل على هذه الأرض. واستهدافه، عبر تنقيبه وطمسه، يعني من بين ما يعني، قتل الشاهد على الجريمة، قتلاً معنوياً في المقام الأول (وهذا قد يكون أخطر من ذاك القتل المادي) واستبدال هويته من هوية الشاهد، إلى هوية المشارِك في الجريمة الذكورية/الحربية/ المدمِّرة/المخرِّبة. إن شقاء المجرم الحقيقي، لا يزول، في معنى ما، إلا حين يرى أن الجميع قد باتوا مجرمين مثله. وهكذا، يصبح لا بد من جرِّ بريء يشاهد ويشهد من على الأطراف، إلى مسرح الجريمة، وإجباره على المشاركة، بغية التخلص منه كشاهد سوف يحاسب ويعاقب من جهة؛ والتخلص من عذابات «الضمير» ومن الشعور بالنقص والدونية والقزميّة، أمام «شاهدٍ» غير ملوَّث بوسخ الجريمة التاريخي، بحيث يستوي المجرم والشاهد على الجريمة، فيصيران شريكيْن ملطخين بها، من جهة أخرى! أن تطمس الذكورية وجه المرأة، يعني أن تمتهن كرامتها، وامتهان هذه الأخيرة هو امتهان للكرامة الإنسانية برمّتها، إذ لا كرامة للإنسان، ما دامت الإنسانة منقوصة الكرامة، فهذا يؤدي إلى ذاك! ويبقى الأفظع، هو ذوبان هوية المرأة، في هوية ذكورية مستبدة ومستعبِدة، هدَّامة ومخرِّبة؛ فتروح تمتهن كرامة نفسها بنفسها، بأن تطمس وجهها/ هويتها، وتنقّبه بنفسها، مغادِرةً عالمها الطبيعي، أي الحياة الملونة المزركشة المتواصلة، لتصير هويتها، هي هوية الموت والدمار والخراب العميم!

كاتبة سوريّة








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي