اخطبوط المفاهيم المضللة!

2023-07-09

سهى الصوفي

في الأوطان المغلوب على أمرها، تترسخ المفاهيم بطريقة منهجية تخدم مصالح السلطة وتزج العقول في قارورة بحجم حبة قمح. الشعوب في أرض الخراب مجهزة لتصديق ما يروى والتوقيع على النص المكتوب دون مراجعة. المفاهيم في يد صاحب المزرعة تتحول إلى حقن، يعرف بالمكان والزمان بأي وريد يوخزها، لم يخطئ يوماً في استعمالها ولم ترتجف أصابعه وهو يتسلل بها إلى الوريد بخفة الريشة ووجع الترهيب. وبمرور الوقت، تصبح المفاهيم علقة تردي من صدقها، وآمن بها، وسار على عقيدتها قتيلاً بدرجة مواطن صالح.

فعلى سبيل المثال، ارتفعت في الربع الأخير من القرن الماضي راية المفهوم القائل «الحيط الحيط ويا رب الستر» وأدرجت هذه العبارة في النص التشريعي المنصوص عليه في قانون المواطنة، فحتى يرضى عنك النظام الحاكم يجب أن ترعبك فكرة المشي في منتصف الطريق. فالإنسان العاقل، أو المواطن العاقل، يجب أن يعيش في حالة من الحذر والوجل والحيطة والخوف، لهذا يكون الخيار الأفضل أو الوحيد، إذا صح التعبير هو، المشي بموازاة الحائط، أما التمتمة في السر «يا رب الستر» فهي اجتهاد شخصي من غير المعروف حتى اليوم اسم صاحب الفكرة.

نسيج البيت السوري لم يسلم من أخطبوط المفاهيم المضللة، ولولا الخجل، لزرع الآباء في نفوس أبنائهم الشك بين بعضهم بعضا. وفي هذا التسلل الفكري القهري، ومع كثرة الحديث عن عقوبة المشكك بفحوى المفاهيم، خرج مفهوم «الحيطان لها آذان» وبات الصمت أو الصوت المنخفض، أو حتى اعتماد تعابير العيون والوجه والأيدي لغة جيل بأكمله، يعلم علم اليقين أن البكم الاختياري، يبقى في أسوأ حالاته أفضل من البكم الناتج عن فعل السوط أو الاعتقال أو الموت حتى التعذيب. وفي هذا الأفق، خرج صوت بعض المثقفين الذي يحلو لهم فذلكة ضعفهم أو عجزهم بالحديث عن نظرية التسليم لسارتر القائلة، «ما دامت كل الطرق تؤدي إلى اللامكان، فلا يهم أي الطرق نختار».

وعلى مقربة من البيت، وتحديداً في الشارع، كان هناك مشهد مألوف، بقدر ما كان التعود عليه قرارا أمنيا، بقدر ما كان الاعتياد عليه فزعا أمنيا. وعليه، يترتب على من يسن قانون التخويف زيادة جرعة التعذيب كي لا يفقد التأديب العلني هيبة الترهيب. ومن أشهر المفاهيم التي تشيد بنجاح الحبكة الدرامية، مفهوم «ألف كلمة جبان ولا كلمة الله يرحمه». فهذه القناعة كانت التجسيد الأمثل لشعار «أنا ومن بعدي الطوفان» أما النجاة من الطوفان هنا، فلا يعني الخلاص، أو حفظ ماء الوجه الأخلاقي، بل النأي بالنفس عن مذلة حتمية لنتيجة حتمية.

ترسيخ المفاهيم المضللة لم يكن لتعزيز سلطوية الحاكم فحسب، بل لكسر شوكة المواطن الذي لم يعد يميز بين الحقيقي والمزيف. فحين تتحول المصلحة إلى بوصلة سلوكية وأيديولوجية، يصبح المفهوم المضلل نصا سماويا لا يجوز تكفيره. وفي مفهوم « من يتزوج أمي، أقول له عمي» تأكيد على الخضوع المطلق لنظرية «الأخلاق لا تطعمك خبزاً» وعليه، باتت عبارة Once upon a time» هي المقدمة المثلى لمكارم الاخلاق، التي تم نعيها في آخر الحكايات التي قيلت في مارس/آذار 2011.

فإذا قال كتاب التاريخ المدرسي، أنو لو تعلم الناس طأطأة الراس، لما فتحت باب السجون لمواطن عربي، على التلميذ أن يقول حاضر، وإذا أعلن مرصد الأخبار الجوية عن هبوب عاصفة رملية، على المواطن أن يلزم بيته، ولو أكدت له شمس اليوم التالي مقولة «كذب المنجمون ولو صدقوا» وإذا طلب منك عنصر من عناصر الأمن، تأليه الحجر، فالذكاء بمكان يقع في شرقنا المتهالك، أن نبصم على ما قاله بالعشرة، لكن إذا أردنا إرضاء السلطة أكثر، فلنبصم بالدم، وإذا جمحنا بطموحنا، فلنردد « بالروح بالدم» أما إذا هدرنا دم جارنا وصاحبنا وأحياناً أخوتنا، فلنخفض رؤوسنا من هول عارنا، لأننا أثبتنا للعالم أجمع، أننا شعب «ما فينا دم».

كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي