سعدي يوسف: امضِ بعيدا إلى النهر

2023-07-02

ملاك أشرف

كتبتُ ما لَمْ أكتبهُ سابقا قبلَ حلول تموز/ يوليو خشية من أيامهِ القاسية، المُترعة بالجفافِ والجفاء وتلكَ النسمات الثقيلة التي تحاوطنا لِتتركنا في سجن اللحظةِ الصارخة المُفترسة، ولا أغفل عن اِضمحلال الحقيقة وتسربها من بين حروفي ونسيج تركيباتي، فأنا طريدةُ التلاشي غير النهائي، طريدة الماضي الشائك والحاضر الخائف، المُختبئ وراء الحقيقة ووحدها الحقيقة مَن تتسلل وتغدو بعيدة، لذا أعود إلى كتابةِ الأوهام، التي أطلبُ منها أن تختفي وتتركني وشأني وحيدة، لعلها تنساب من حياتي كانسياب الأيام، ولا تُبصر لي لكنني لا أملك قدرة على الطرد بسهولة وتصفية النفس منها أو تأويلها بدلا من نقلِها إلى الورق مُباشرة.

أوه، تلكَ الوحدة المُلتصقة بي كشجونٍ تُرافقُ المنسي العابر، أو كحياةٍ تبدو لشاعرٍ مُرهفٍ رقيقٍ طريدتهُ السرمدية الهائِبة، كما سركون بولص وتعبيره في قصائده عن المكان الذي لا يحلم إلى وصولهِ والحياة طريدتهُ الوحيدة المُرتجفة، هذهِ القصائد كانت محاولة للوصولِ إلى بيروت عن طريق البحر، وقد وصلَ بينما ظل الآخرون يندبون حظهم عندما لَمْ يوصلهم إلى المدن ليستريحوا قليلا.

أتساءلُ عن علاقةِ سركون السرية ببيروت، وكيفية تأملهُ لذلكَ البحر وما فيه من سحرٍ وحزنٍ يدوم، وبالأحرى كيف ستقاومُ بيروت الناعمة العذبة تَموز المُتَعجرِف اللا مُبالي؟ آه كم بغداد وبيروت في مأساةٍ مديدةٍ! الأنهار تعرفُ ما حدثَ، حيث باتتْ تمنحُ إياهما كتفا للبكاءِ عليه كي تجردَ الذوات من الدخان الذي ما زالَ عالقا في الشوارعِ والأزِقةِ.

رُبما لو أعطيت فسحة واسعة لهذا البوح المَغمُوم وبعضا من دموعي- المُلازمة لي على الدوام- في الأوقات المقبلة سيقومُ برحلةٍ نحو المُدنِ ويصفُ بدقةٍ وحرصٍ مُعاناتها الأبدية وكيفية تحطمها وانكسارها كإكليلِ شوكٍ منفي مع صليبٍ خارج كنيسة ما، أو طفل منفي من قبل منزله، حيث يُهيم بفكرةِ الحنين بلا طائلٍ، لأنصرف إلى المكاتيب المريرة ذات العُمر القصير، إذ لا مقدرةَ لها على الوجود المُطول في فضاءِ الشعر، فهي لا شك كَهلةٌ ومُتعبةٌ من توقع مُغادرتها وتلاشيها في أحد الأشهر والسنوات القريبة من الخذلانِ والجروح المُخترقة من قبل رصاص الخيبة، الهواجس الكاذبة أو الحِيل البائنة والنذير الزائف.

أكتبُ القصيدة التي أخشى عليها، كما أخشى على نفسي المخدوشة بسبب الغرباء في مقهى مدينتي، أسرقُ قليلا من الوقتِ لأُطالع قصائد سركون بولص المُثقلة بالدلالة أو سعدي يوسف بخزينهِ الثقافي الحي، يا للمُفارقة والاختلاف بينَ كلا الشاعرين، أعترفُ أني ملتُ لحظتها إلى سعدي يوسف، وكتبه المُكدسة على الكرسي الفارغ الآخر، ليسَ لأني شيوعية، أو أن شِعره الأكثر شرحا لنفسي الجدارية التي تزجر الأُناس وتستقبل الأزهار أو كونه شاعرا نبيلا طهرَ الشعر بعذوبتهِ، لمّعهُ وأخرجهُ بنقاوةٍ من حيز الأضواء المُشتعلة بشكلٍ واهمٍ، بل لأنهُ يجيد الكتابة عن الخريف المُكتمل، وأنا الخريف مُقترنٌ بي لكنهُ ناقصٌ، لعلي بقراءةِ سعدي يكتملُ خريفي، لعلي أكون أكثر تقبلا لمعيشةِ تموز، وأنسى الأوراق اليابسة المُتشبثة بأطراف قميصي الحريري الأبيض!

المقهى مفتوحٌ للجميع، لمن يرغب فيّ، ولمن قرر أن يكرهني بلا أسبابٍ تشفع لفعلتهِ غير المُنصفة، هل انتبهتُ لهُم؟ نعم انتبهت ثُم التفتُ بينَ فينةٍ وثانية لحركاتهم الصبيانية الطائشة، رأيتُ ما لستُ أريد رؤيته، ينعمون بالثرثرةِ وأنعمُ أنا بالصمت المُهيمن على طاولتي كعادتهِ إلا أني توقفتُ بغتة عن مُلاحظتهم، راودني ما قالهُ سعدي فاكتفيتُ بالشعر وتغاضيتُ عما فعلوا، فزعا من أن يكونوا الوجه الخفي الغرائبي لهُويتي، المستوطن في داخل ذاتي والقابع بخجلٍ في أعماقي، «إن كنتَ تحسبُ أنكَ مُختلفٌ فانتبه:/أنتَ صرتَ كمن ترصِدهُم/أنتَ عاشرتهم/هي عشرونَ عاما فلتمضِ».

سوف أمضي بعدَ هذهِ الساعات التي شعرتُ بِها كما لو كانت عشرين عاما امتد فيها الصيفُ وانحسرَ الشتاء، وعليهِ اختنقتُ كمن يغصُ بالطعام ولَمْ ينجُ؛ لأن ليسَ ثمة مَن ينقذهُ راكضا بشفقةٍ مُفعمة بالسخاء والخوف، المُشكلة أن المقهى سيبقى مفتوحا للجميع، والمشهد واحد لن يتغيرَ ولن يفطن لهُ سواي، رغم عدم تعمدي إبصار الرؤية ذاتها، الرؤية التي تأكل راحتي وسكينتي مثلما يأكل الساسة الازدواجيون بيروت أو بغداد بوساطةِ نفاقهم الديمقراطي، في البلد القابل للاِندثار، تموت ملائكةٌ نادمة ويُهدر نبيذٌ مُحمر مُستفيض، سأمضي بعدَ هذا الجلوس إلى أبعد مما تحملني قدماي المُوخزة وإن كانَ الممشى هشا مُنطفئا لا يقوى على الاستمرار، يئن بمهلٍ مثل ممشى سعدي الذي قالَ عنهُ إنهُ رخي لدِنٌ تارة، مُوجع مُتحجر تارة أُخرى.

فالمقهى ليسَ مقهانا ولا هذهِ البلدان بقيت بلداننا، إنما جف فيها الإنسان كالينابيع المُتدفقة الفياضة بعدَ أن جفت، وفقد هُويته كالشاعر الذي يفقد فجأة شعبيته المُزيفة، يا حسرتي على مَن صدّقَ وهج المقاهي الأنيقة وعلى مَن سارَ وظن أنهُ سيصل، لطالما كانَ الطريقُ الحقيقي هو الطريق الذي لا نهايةَ لهُ لا الطريق الذي سرعان ما ينتهي ويستكين الجسد..

خلقتُ من تموز أسطورة حديثة في وقتٍ لا حاجةَ لنا للأساطير، هل سمعتَ أيها المُتعبُ، أيها العدو الضائع أسطورة مُشتقة من أسطورة؟ هل بالضرورة إنكار أسطورتكَ المألوفة وابتداع أُخرى شخصية؟ أسطورة ترفض المتن، تسكن في الهوامش بأسى! أهذهِ الأسطورة التموزية ستعاقبني يوما وتنزل عليّ اللعنة كما يعاقبني النقد عندما أفكر باستعماله على أشعار سعدي لاستجلاء مستويات المعاني وبالتالي اتلكأ؟ رُبما يتعين عليّ التماهي مع الواقع الشائع كما تماهيت مع سعدي كي لا أدفعَ الثمن مُجددا، أن أعيشَ الأسطورة دون تلاعبٍ واشتقاقٍ، كما تتقمص هي عصرها بلا مُمَاذَقَة، علام البحث عن سياقٍ آخرَ؟ علام هذا الشجن الثابت المنذور بالموت؟ أنا مثلهم عشتُ طويلا في المقهى المُتسع والاغتراب المُؤلم، لكن لَمْ يكن المكانُ لي، سأمشي ولن يوقفني شيءٌ غير النهر، ولن يراني أحدٌ وحيدة، ألقي فراغا وراء ظهري ولا شيءَ لي، قد يعرفني النهر المنشود الغامض والنائي ويكون لي ورُبما هو الآخر سينكرني.

«امضِ بعيدا إلى النهرِ، وادخل سماواتهِ/ليسَ ثمة مَن لا يطيقونَ لونكَ/أو لا يطيقونَ قولكَ/قد حانت الساعةُ الآنَ/حانَ الرحيل!» مقطوعة يائسة قالها سعدي ورحلَ إلى النهر، سبقني ولَمْ أدرك الرحيل إلا مُتأخرا بعدَ أن أصبحَ الصيفُ طويلا مُتبجحا بقيثارتهِ الصاخبة، وانقضى الخريف شيئا فشيئا إلى أن صارَ ناقصا مثل الأبيات الشعرية إن تضاءلت بلاغتها، على ما يبدو لن يكتملَ خريفي مُستوحدا، يرفض الاكتمال فتموز أيضا رفضَ النقصان أو الانتهاء، إما يتريث مُخادعا وإما يلوح لنا عاليا بغية أن ينحتَ النهاية، لاغيا المُتعة المُرجوة ومُتلفتا من أجلِنا بصورةٍ مُواربة بهدف الترهيب وطلب فتات القلب المُسرعات..

سأذهب مثلكَ يا سعدي إلى حيثُ لا أنتهي بلا آمالٍ أو أُغنياتٍ عاطفية مُلطخة بالألوان المُبهجة، وسأكون سيدةَ النهرِ حتما، هذهِ الرغبة الباهظة الرفيعة هي علاجٌ لتعبي الأنثوي المُتجذر سلفا، سيدة النهرِ التي يُلاحقها الخريف مُتمسكا بأوشحتِها القاتمة، أو ثيابها الشاحبة، الخريف الباهت لا يعرف من توهج الاصفرار سوى ظلالهِ الأولى، سيبقى قصيرا مُتَأففا بينَ المواسمِ ولا يرى أمامه إلا ذلكَ الصيف القاهر والعزلة في مقاهٍ مُتأنقة تجرح البسيط الهادئ، مقاهٍ يجيء الهواءُ من نوافذها مسجورا بالسموم كأنه الموت عندما يكون ضروريا للحياةِ مُجددا. بينما يكون النهر هو العزاء الأخير للشاعر وبالأحرى هو مُحاولاتٌ لاِستعادة شخص على وشك الاختفاء، لحظتها لن يعودَ منهُ الشاعر ببساطة، إنما يسير ولا يتوقف مثل تدفقه وسيله، تغدو أعماله مُبللة حينئذٍ كالزنبق المُجاور لذلكَ النهر، وويل لمن يتوقف ولا يجري معهُ في حالةٍ قصوى، وويل لمن لا يرجو أن يسدد دينه من أجلِ ألا يضيق بهِ شيءٌ وينخرطُ فيهِ خوفا من تبدل لُغته الزمنية الخائنة قبل فوات آوانها.

اغترب تتجدد، سرْ بعيدا إلى النهرِ تتمدد ولا ترَ الأعداء أو تصغِ لأناشيدهم وإن تبعوكَ بتلهفٍ، رغم أنهُ خائبٌ سَمْعُ مَن لا يرى وخائبٌ دوما مَن يضع عينه في عين العدو، لئلا يظنهُ ضعيفا مُتهربا أكثر مما ينبغي. يسقط مَن يستدير دون أن يصدرَ ضجيجا في المُنعطفات، ثُم يشعر بسقوطهِ بعدما ينتصر الخصوم، حاملا آلام السقوط وذكرياته التي تُضاعف العزلة إلى أبدِ الآبدينَ، ولا جدوى من المواسم فهي تأتي وتمضي هكذا دواليك.. يقيني أنها لا تنتظر حُبا أو إنكارا من أحدٍ ذابلٍ غير مُجدٍ على الإطلاق، يرنو مُتذمرا، ولن يُواصل الصبر إن هوت ريشة من طائرٍ طارئ عليه، لن يبخلَ في حزنهِ ذي المذاق المُر مهما يصد عن نصيبه المُشوه المُهشم.

كاتبة عراقية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي