حوانيت القيروان

2023-06-10

منصف الوهايبي

«وإنْ تقتنِصْني في الحوانيتِ تَصْطَدِ» طرفة

إلى سعدي يوسف ذكرى القيروان

القيروانُ الصيفَ.. (كلّ فصولها صيفٌ)..ولا ظلٌّ سوى أوْباشِ أشجارٍ على الطرقاتِ.. تفْقِسُ بيضَها.. للريح..

أنتَ الآنَ في أعوامكَ السبعينَ.. تَقْطعُها وحيدًا..في الغبارِ.. غبارِها..

متقلّبًا.. قلبًا.. بها.. بَصَرًا.. على الرمْضَاءِ.. هذي قَيْروانُكَ ساعةٌ رمليّةٌ أبديّةٌ..

تَتَسَانَدُ الحاناتُ فيها والمساجدُ..

ذَا نُواسِيٌّ على وَقْعٍ مِنَ القرآنِ.. يَحْسُو..

مَالكيٌّ في مُصَلاهُ على إيقاعِ داليةٍ.. يرتّلُ سُورةَ الرحْمَنِ..

أوْ يتلُو..على وَقْعِ الهَسيسِ.. هَسيسِ أقداحِ السكارَى..

(مسجدُ ابنِ خليفةٍ..ما زالَ خلفَ الحانِ أخضرَ.. قابعًا.. أو طالعًا.. في الشمسِ.. «ضَاهِرةُ» المساجدِ في القَفَا.. مَخْبُوءَةٌ في تِرْسِها.. لا شيءَ من ماءِ الصفَا فيها..)

٭ ٭ ٭

ـ أتسمعهُ يُقارعُ كأسَهُ؟.. وكأنّها نزفتْ.. أتسمعهُ؟»/ أَتَعْني الوَغْدَ؟ قِدْحٌ من سهامٍ.. لا نصيبَ له؟/ أَتَسْمَعُهُمْ؟ سَكَارَى أمْ عناكبُ لا عيونَ لها.. تُسَدِّي في الهواءِ.. وَتَبْتَنِي؟

ـ أنا لنْ أصلّيَ هَا هنا.. أبدًا../ وَأيْنَ.. تُراكَ؟/ عند «مُكلّمِ الجَمَلِ» الصلاةُ هناكَ.. قُرْبَ البيتِ.. لا ريحٌ تقابلُ دنَّهمْ.. فينا.. ولا شمسٌ.. وأنتَ إذنْ؟/ أنا؟ في «جامعِ الحُصْرِيِّ».. حيث «الربْعُ».. حانوتِي القديمُ.. أتذكرُ «الرِّنْقَا» وأيّامًا لنا؟

ـ لم يبقَ منها غيرُ أجراسِ الظلالِ خفيّةً.. مذْ صرتُ أسمعُ جَرْسَ طَيْرِ الجنّةِ الخضراءِ..

في أشجارها..

هل أنتَ تَسْمَعُهُ؟

ــ أنَا؟

بَلْ صِرْتُ أسمعُ جَرْشَهُمْ في الحَانِ؟

٭ ٭ ٭

حَانَاتٌ ثلاثٌ أمْ توابيتُ الحديدِ؟ ونحنُ من مُتَجَمَّعِ الأَبْوَابِ نَدْخُلُهَا..

أَهذا «مَسْجدُ الأبوابِ»؟ هلْ هذا ابنُ خَيْرُونٍ؟ لكنْ لا زخارفَ من نباتٍ..

لا ظلالٌ من سوادِ كتابةٍ كوفيّةٍ.. فيها.. الرواقُ الحانُ .. كانَ سقيفةً مهجورةً..

وَلعلَّ سيّدةً.. بها.. كانتْ.. كأمّي.. أو كأمّكَ.. أوْ لعلَّ صبيّةً «صبّاحةً».. و«خِلالةً» خرساءَ ما زالتْ ترنُّ..

لعلّ مِنْساجًا لها.. ما زال ينشرُ خيطَ ظلٍّ من سوادٍ.. في حجارتِها..

وحزنٍ لم يزلْ في سقفها..

٭ ٭ ٭

الحانُ؟ هذا الحاضرُ الأبديُّ.. مِنْهُ.. يُطلّ مِن كأسٍ على الماضي..

يَشِيمُ روائحَ الموتى..

«لقدْ ماتتْ.. وصرتُ أبًا.. لأَوْلاَدِي.. وَأُمًّا..»

وَهْوَ يُجْهِشُ.. ثمَّ يَضْحَكُ.. في بُرودةِ كأسِهِ.. في جَوْفِ رَاحَتِهِ.. كأنّهُ يملك الأشياءَ..

ـ أعرف أنّ هذي الكأسَ تبنِي منزلاً لي.. وهْيَ تَرْقدُ ها هناكَ.. هنيئةً..في دارِها/ وأقول: أينَ؟/ يقول: دارُ الحقّ..».

يضحكُ فيّ بيتٌ (في القصيدةِ) واسعِ الشدْقَينِ..

رَحْبِ الدفّتينِ: «الأرض دار الحقّ..»

إذْ ينسلُّ مِنْ بينِ اليدينِ الوقتُ.. أمْضِي في حكاياتِ النبيذ.. نبيذِهمْ

مُتجرّعًا كلماتِهمْ أبدًا

كأنِّي لا أكادُ أُسِيغُها

٭ ٭ ٭

في الحانِ نشربُ حُزْنَنَا..

حيث الحياةُ تمرّ من شبّاكنَا.. مطرٌ.. خفيفٌ.. طائشٌ.. في عزِّ هذا الصيفِ..

ذَا قطٌّ يلاعبُ ظلّهُ.. كلبٌ صديقٌ عِندَ صندوقِ القُمامةِ.. طائرٌ..مْنقارُهُ الإزْميلُ.. يحفرُ.. في أعَالي نخلةٍ.. أمْ كانَ يَقْرَعُهَا؟ (ـ هو النقّارُ؟

قلْ مِنْ أينَ جَاءَ النّومِدِيُّ؟).. صبيّةٌ..لكأنّها حُوريّةُ الغاباتِ.. لكنْ في قميصِ الصوفِ.. تُشرِعُ للرذاذِ مظلّةً.. والماءُ أخضرُ فاجِرٌ..(وكأنّها ابتسمتْ لنا).. والقيروانُ شتاؤهَا كخريفِها.. كربيعِها.. صيفٌ.. .. غبارٌ.. ثمّ

يهطلُ قاتمًا نَوْءُ السِّماكَينِ..

(الحياةُ تمرُّ..مثلكِ أنتِ.. أيّتهَا الصبيّةُ.. خَطْفَ نَبَضٍ..

والتي أحْبَبْتَ.. قدْ ذهبتْ..

وأنتَ بَقيتَ أعزلَ يا وَهَيْبي.. كالسماكِ.. وكنتَ تَحْدِسُ أنّه قَمرٌ شآمٌ..سوف ينزل ليلةً.. ويَقُودُهَا..

والآنَ.. قُلْ؟ لا شيءَ بين يديّ من زُرْقِ الكواكبِ.. غيَرَها.. لا شيءَ.. لا بردٌ.. ولا ريحٌ.. ولا نوءٌ.. ولي جِهةُ الجنوبِ.. أنا.. ولي جِهةُ الشمالِ.. أنا..)

٭ ٭ ٭

وذَا؟ حَانٌ.. كَما لوْ أنّهُ القَرْن المُجوّفُ.. شاحبًا.. يزْرَقُّ.. أو يَرْمدُّ..

حانٌ مُبْهَمٌ .. لا ضوءَ فيه سائلٌ..

لا نَهْتدِي أبدًا لِفتْحِ البابِ.. حين نَهمُّ ..

هلْ ذَا حائطٌ لا بابَ فيهِ؟

نَرتَقِى منهُ إلى المِحرابِ.. زخرفةٌ مُقعّرةٌ.. وسلّمهُ يطقطقُ أو يَصِرُّ..

نرى به «سَعْدي».. وَمَجلسهُ يَغَصُّ بِنَا..

وَلكنْ أيْن أطباقُ النحاسِ؟

ـ نحاسهُ؟ عندَ الربيعِ.. ربيعِنا العربيِّ..

ـ هل سُرقتْ؟

ـ أَجَلْ..«في يَوْم نَحْسٍ».. مِن ربيعٍ.. بل شتاءٍ قارسٍ..

(لو كنتُ مثلكَ يا ابنَ يوسُفَ.. كنتُ قد أَوْصَيْتُهمْ أنْ أحْرِقُوني.. وانظرُوا يومًا بها.. رَاحًا.. فأذْرونِي .. أنَا..)

٭ ٭ ٭

حانٌ لـ «أرْتُو»..(كانَ مثلكَ في عراءِ الروحِ.. يُلْقِي نفسَهُ)

هُو طافئُ الشبّاكِ.. كنتُ أقولُ هذا من رقيقِ سحابةٍ.. أعني بقايَا نجمةٍ هَمدتْ..

لكنّ الموائدَ حيّةٌ.. نفَسًا.. وإيماءً..

وذا صَخِبٌ.. طَروبٌ.. في حذاءٍ عسكريٍّ.. وَهْوَ يلطأُ في خيوطِ العنكبوتِ.. .. يدبُّ.. في مِجْذافهِ الخلْفيِّ..أو طيرانهِ الأفُقِيِّ..

حيثُ له الكراسِي.. ظهرُها المكسورُ.. كانَ يئزّ.. (يَضحكُ)..

ـ قَدْ حلمتُ بِها.. الصبيّةُ..

ـ أيّهنَّ؟

ـ نَسيتَ؟

مَنْ؟

ـ حوريّةُ الغاباتِ ..

ـ مَنْ؟

ـ تلك التي ابتسمتْ ونحنُ نُطلُّ من شبّاكنَا..

أنسيتَ؟ كانَ هناك قطٌّ.. طائرٌ.. مطرٌ.. وكلبٌ.. رُبّما..

٭ ٭ ٭

في الحانِ.. نحنُ سَماعُنَا .. والسمعُ يُخْصِبُنا.. ويُغْنينا… وثمّةَ آخَرٌ يندسُّ فينا.. بَعضهمْ حَجَرُ ابنِ مُقبلَ.. بعضهمْ حَاكٍ.. أو «جراموفونُ».. قلْ.. هو مثل»غُنغورا».. أتعرفه؟ مِنَ الإسبانِ.. كانَ يلاعبُ الكلماتِ.. مثلك أنتَ..

«ـ كَيفَ؟ مُكلّمًا جَمَلي..أنَا

وَلْيَحكُمُوا «الخضراء» ما شاؤوا.. فليسَ يَسُوسُني فيها.. سِوى خبزي.. وزيتِي الساحليِّ.. الفجرَ.. قِشدة زبدتِي.. في الليلِ.. لي قِدْرٍ تُصكّ بها حرابيُّ الظهورِ..

ولِي أنا.. ليمونةٌ معصورةٌ.. كشفاهِ من أحبَبْتُ.. لي كأسٌ دِهاقٌ من نبيذٍ تونسيٍّ… حَامزٍ.. أوْ حامضٍ.. أو سامطٍ.. أو خامطٍ.. يحمرُّ.. ذاكَ؟ عُصارةُ الراتنجِ..

لِي في حضرموتَ الصيفَ..حانٌ في «أوسُّو».. لي ندًى في البحرِ.. من إكليليَ الجبليّ.. أو من زهرةٍ زرقاءَ..خُلْق الماءِ.. ذا برجي أنا.. الماويُّ.. لي أسماكهُ.. أبدًا مجنّحةٌ.. ولا صِنّارةٌ.. لا طعْمَ..لي.. فيها..»

ـ ونحنُ.. لنا توابيتُ الحديدِ.. وضيئةً..

هي جنّةُ المأوى.. لنا.. في القيروانِ..تَحُوطُنا

شعراءَ.. أو أشباهَ قدّيسينَ.. أوْغادًا.. وأوباشًا.. غنوصيّينَ.. رسّامينَ.. نشّالين..

أوْ بحّارةً من حضرموتَ..

كَأنْ هُمُ يأتونَ من ليلِ الأساطيرِ الغريقِ..

ولا امرأةٌ.. هنَا.. أو رقصةٌ منها.. مجنّحةٌ.. لنا..

ـ لو كنتُ مثلكَ.. يا وهَيْبِي.. كنتُ أدخلُ في ظلامِ مَحارةٍ.. متحيّرًا.. لا يهتدي لسبيلهِ..

لَو كنتُ مثلكَ..كنتُ أدخلُ جَرْسَ هذا البحرِ..

أحلمُ مثلَ «عبد المنعمِ الكنديِّ».. أجلبهُ معي.. حتّى سهوبِ القيروانِ.. البحرْ..

كاتب وشاعر تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي