حيدر حيدر… والرحيل الأخير

2023-06-09

فواز خيو

هكذا ينسل الكبار واحدا تلو آخر، يتركون أمكنتهم للفراغ بكل نهمه وعبثيته.

أحيانا تنزلق المفردات منا بعفوية، ودون دراية، حين نقول عن مبدع إنه إنسان متمرد، لأنه لولا تمرده لما أبدع.

الإنسان المتسالم مع الواقع، يجد نفسه منسجما ومندغما في المجتمع، ولا يجد ما يستفزه ويحرضه على الفعل الإبداعي، تراه في أعلى تجلياته يرتدي الطقم والكرافيت ويثبت حضوره في محيطه، وهذا ما يحقق له ذاته. كتبت مرة: مثلما ينفجر الزلزال أو البركان نتيجة اختلال التوازن والضغط بين طبقات الأرض، كذلك ينفجر الإبداع، نتيجة اختلال التوازن والضغط بين طبقات النفس مع بعضها، وبين طبقات النفس والمحيط، فيتولد هاجس البحث عن التغيير، أو حتى التفجير، لعله يغير شيئا.

حيدر حيدر هكذا، وجد في النص ضالته، لعله يفعل شيئا.. كأي مبدع ولد وعاش غريبا ووحيدا، مهما كان حوله من ناس. ثلاثون عاما وأنا في دمشق، لم أسمع له عن نشاط أدبي أو محاضرة أو حضور لنشاط. لم تكن تعنيه الأضواء، متوافقا مع رؤيتي: لا تلهث وراء الأضواء، دع الأضواء تلهث خلفك، كن أنت الضوء، وهكذا كان. كان يشعل ضوءه الخاص ويسهر عليه وسط هذا العتم الكثيف. عاش قرب البحر، يصطاد السمك. ربما وجد في عالم السمك وهيجان البحر أمانا أكثر من الأمان في مجتمع مضطرب ومتهالك، قانونه الوحيد هو اللاقانون. كان يصطاد السمكة بسنارته الطويلة، كما يصطاد فكرته من أقصى الزوايا العاتمة، ليضعها على مائدة النص، فتضيء ما حولها من أحداث، ثم يقدمها للقارئ وسط وليمة شهية، كوليمته الشهيرة لأعشاب البحر.

كتب القصيدة في رواية، والعكس، سردية ممتعة بلغة شعرية رشيقة بلا تكلف، فالروي ليس مجرد سرد أحداث، فأي جدة تسرد لك قصصا، لكن السرد إذا لم يرتدِ الإبداع في الفكرة والصورة والتصور والتفاصيل الدافئة، يصبح مجرد حكواتي ممل، وما أكثرهم. لم أعرفه شخصيا مع الأسف، لكني كنت أسمع من زملائي وأصدقائي عن قصصه وزهده وبساطة عيشه. ورغم أنه شخص لطيف لكنه على الورق شخص حاد، تراه يغرز أظافره في جلد الحالة ليسلخها ويعريها ويريك تفاصيلها المؤلمة. يحكي في روايته الوليمة عن الثورة الجزائرية، التي قدمت أرقاما مهولة من الضحايا والرجال الكبار، وفي نهاية الحرب نهض من كانوا في الأقبية ليتولوا زمام الأمور، ويتظاهروا بأبوتهم للثورة ويمارسوا دور الجلاد على الثوار الحقيقيين.

وفي مكان آخر يحكي عن مراهقي اليسار الذين عبدوا السلف الصالح، ولم يجدوا في طرق التغيير سوى الكفاح المسلح، القتل والدم للوصول الى السلطة، وعن تشتت النخبة، فالمثقف حين ينكسر حلمه في حزب تراه يلجأ إلى حزب يختلف تماما في فكره وتوجهاته عن حزبه الأول، وقد يلجأ إلى جحره الطائفي ويرتدي العمامة. وحسب قانون الثورات يصعد الانتهازيون ويجنون ثمار من فلح وزرع وسقى. هذه هي عبثية الحياة، التي تجعل كاتبا مثل حيدر حيدر يعتزل وحيدا، يحصي خيباته وانكساراته وأحلامه المدورة من ألف جيل، ينتظر ساعة رحيله الأخير، ورغم أنه عاصر كل التقلبات المريعة منذ مرحلة الاستقلال والنكبة وما حدث من انقلابات عسكرية، ثم النكسة وما تلاها، وما رافقها من تقلبات سياسية واجتماعية واقتصادية، وضعضعة لكل ما هو موجود، لم يُضِع البوصلة،

فقد كان مدركا تماما لما يجب أن يكون.

أخيرا: لا مفردات ولا عبارات قادرة على رسم حالة الخراب والتهدم حين نجد جنازة تخص مطربا رديئا يخرج فيها أضعااااف ما يخرج في جنازة كاتب مبدع كبير. ما أقسى أن تفكر، أن تحلم في عالم يمحو السيل كل ملامحه ودروبه. لم تعد كل الدروب تؤدي إلى روما، لم يعد هناك روما، لم يعد هناك دروب، لقد جرف السيل كل شيء.

حيدر حيدر.. السلام لروحك

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي