شكسبير امرأة، وهرطقات أخرى

2023-05-29

صبحي حديدي

ليست جديدة مسائل التشكيك في الهوية الحقيقية للمسرحي والشاعر الإنكليزي الأشهر وليام شكسبير (1564-1616)، وما إذا كان بالفعل هو كاتب المسرحيات والسونيتات التي طبقت الآفاق والعصور واللغات والثقافات؛ أم أنّ سواه كتبها، ولأسباب شتى غاب المؤلف الحقيقي، أو المؤلفون ربما، وثبّت التاريخ (عبر سلطة المحرّم أو الممنوع أو المسكوت عنه، كما يساجل المشككون) اسم شكسبير، مرّة وإلى الأبد. والأمر هنا لا يتصل بما نُسج، ولعله سوف يظلّ يُنسج، من أساطير أو استيهامات أو حتى تخريفات (على غرار ما فعل معمّر القذافي ذات يوم، حين أفتى بأنّ كبير شعراء بريطانيا وكتّابها المسرحيين ليس سوى «الشيخ زبير»، ابن العرب العروبة)؛ إذْ ثمة الكثير من المظانّ والطعون والأسئلة، المؤرّقة بقدر ما هي جادّة، تتوخى الوثيقة والبرهان في تدقيق المعلومة المسلّم بها.

وضمن الجهود المميزة في هذا السبيل كتاب الصحافية والناقدة الأدبية إليزابيث ونكلر «شكسبير كان امرأة وهرطقات أخرى»، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات سايمون آند شوستر في نيويورك ولندن؛ ويسير عنوانه الفرعي على نحو يؤشر على المنحى العامّ للكتاب، ومنهجيته وطابعه السجالي: «كيف صار التشكيك في الشاعر الكبير بمثابة المحرّم الأكبر في الأدب». وإلى جانب غزارة الحجج والحجج المضادة حول التفصيل الأهمّ في المسألة الشكسبيرية هذه (ما إذا كان المؤلف الفعلي لأعماله)، تشكّل فصول الكتاب مساهمات معمقة في مبحث حاسم وأساسي، يتصل بوضع حقائق التاريخ على محكّ المساءلة، حتى إذا كانت من طراز يحظى بإجماع واسع وقاطع ومتفق عليه. بل حتى إذا بلغ النقاش أروقة المحاكم، وتوجّه المتقاضون إلى المحكمة العليا في بريطانيا، وانطوى على ما يتجاوز الإرث الأدبي لـ39 مسرحية و158 سونيتة وقصائد متفرقة، إلى حيازة ميراث مالي بملايين الجنيهات الإسترلينية.

وليس عبثاً أنّ ونكلر تبدأ كتابها من هذا المستوى القضائي، فتستعيد محاكمة شهيرة شهدتها بريطانيا سنة 1964 وشغلت الرأي العام لأنها لم تصل إلى المحكمة العليا فقط، بل شهد فيها واستُدعي إلى جلساتها عدد من أصفى نقّاد الأدب ومؤرّخيه، خاصة أولئك الذي عُرف عنهم باع طويل في أدب شكسبير. القضية بدأت عند وفاة السيدة أفلين ماي هوبكنز التي أوصت بثُلث ثروتها إلى «جمعية فرنسيس بيكون»، موصية بأن تُنفق الأموال على جهود التحقق من وجود المخطوطات الأصلية لمسرحيات شكسبير، وما إذا كان الفيلسوف والسياسي البريطاني بيكون هو الكاتب الفعلي؛ الأمر الذي أغضب ورثتها، بالطبع، فلجأوا إلى القضاء بذريعة أنّ تحقيقاً كهذا غير ممكن.

ريشارد ولبرفورس، القاضي في المحكمة العليا لصاحبة الجلالة، اعتبر أنّ «الدليل لصالح تأليف شكسبير قليل من حيث الكمّ. وهو يرتكز عموماً على البيانات الصريحة في طبعة الأعمال الأولى لسنة 1623، وعلى تراث متواصل». ورغم إقراره بأنّ غالبية الباحثين يقبلون بنسبة المسرحيات إلى شكسبير، فإنّ أي إرث أدبي مستقرّ يمكن أن ينطوي على «هرطقات ليست خاطئة بالضرورة»، مستخلصاً أنّ المسألة لا يمكن اعتبارها مغلقة أو منتهية. لكنه، اتكاء على عدم توفّر أدلة مضادة لدى الورثة، حكم بتثبيت وصية السيدة هوبكنز.

وفي طرائف النقاش حول هوية شكسبير المؤلف، ثمة ذلك التساؤل حول احتمال أن يكون شكسبير الرجل امرأة أصلاً؛ تسترت وأغفلت اسمها رضوخاً لأعراف تلك الأزمنة، التي استنكرت على امرأة أن تمثّل في مسرحية، فكيف أن تكتبها. والفرضية ليست جديدة، بالطبع، إذْ يُعثر على تنويعاتها لدى فيلسوفة وكاتبة مسرحية مثل مرغريت كافنديش في القرن السابع عشر؛ أو لدى جون رسكن، الفيلسوف والناقد الفكتوري، الذي جزم بأنّ مسرح شكسبير لا أبطال فيه بل بطلات نساء.

وإذْ يستعرض المرء روحية التمرّد أو نزعة التحرر أو شغف السلطة لدى الليدي مكبث، أو بياتريس في «جعجعة بلا طحن»، أو روزاليند في «على هواك»، أو كيت في «ترويض الشرسة»، أو إميليا في «عطيل»؛ ثمّ حقيقة أنّ 10 من نساء شكسبير البطلات يرفضن زيجات مرتبة من آبائهنّ للحاق بعشاقهنّ، و8 منهن يتنكرن بزيّ رجال ساخرات من المنظومة البطريركية، و6 يرتقين إلى مصافّ قيادة الجيوش… فإنّ غلبة المرأة تثير أسئلة وتستحثّ إجابات خارج المألوف. إنها، أيضاً، تُضاف إلى معطيات التشكيك في أنّ شكسبير (وليس السيدة إميليا باسانو أو السيدة ماري سيدني أو السادة كريستوفر مارلو أو فرنسيس بيكون أو إدوارد دو فير…) هنّ وهم خلف النصوص.

لائحة المشككين تتضمن «ثقاة» من أمثال رالف ولدو إمرسون، والت ويتمان، مارك توين، سيغموند فرويد، هنري جيمس، فرجينيا وولف، وشارلي شابلن. مع العلم، فوق هذا، أنه لا يُعثر في زمن وفاة شكسبير على أيّ رثاء له أو تأبين، على نقيض أناس كانوا أقلّ شأناً منه؛ ومع معلومة أخيرة تظلّ مشكاة المشككين: لماذا لا يُعثر في وصيته على أية إشارة إلى حقوق ملكية المؤلفات، بالمقارنة مع تعداد ثروته من الأواني والأسرّة؟

ويبقى أنّ السجال مفيد، أو لا ضرر فيه ولا ضرار؛ لأنّ قيمة النصوص، مسرحاً وشعراً، خالدة في ذاتها، ومخلدّة في ذائقة العصور والأجيال والثقافات.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي