من يوميات العيادة

2023-05-24

ثائر دوري

أنانية

بنظرات قلقة وكلمات ترميها سريعاً بدأت تروي شكايتها المرضية. وكالعادة سرعان ما دخلت في مسارب جانبية، فتحدثت عن آلام الظهر والعملية المرتقبة. نظرت إلى وجهها. سيدة ستينية متوسطة الطول بيضاء البشرة وهذا شكل شائع للنساء في مدينة حماة، تبدو أصغر قليلاً من عمرها 63 سنة المسجل في بطاقتها أمامي، كما أن سحنة ملامح الاكتئاب جلية على وجهها وهذا معتاد هذه الأيام.

قاطعت سرديتها المرضية وطلبت منها أن تجلس على طاولة الفحص. بنظرة سريعة شخصت مرض قدميها، تعاني من آفات البرد وهذا أمر معتاد أيضاً في هذا الشتاء بسبب انعدام التدفئة، لا كهرباء ولا مازوت ولا غاز. طمأنتها أن المسألة بسيطة. وتناولت منها كيس الأدوية الذي تحمله. مسكنات، كلس، دواء خافض للضغط، وهذا أيضاً معتاد في مثل سنها. كل شيء عادي لسنها وسكنها والظروف التي تعيشها.. حاولت بث الطمأنينة في نفسها بكلمات عن بساطة مرضها وشيوعه هذه الأيام بسبب انعدام التدفئة. وفي كل مرة كانت تكرر لازمة ثابتة:

ـ أنا غير خائفة من شيء.

كتبت الوصفة وناولتها إياها، وطلبت منها أن ترتدي جوارب سميكة كي تدفأ قدميها. لم أجرؤ أن أقترح وسيلة تدفئة أخرى لأني أدرك أن ذلك مستحيل في ظروف فقدان كل شيء. بدأت ترتدي جواربها وبدأت أسجل التشخيص على الكومبيوتر. سمعتها تبكي بصوت خافت. توقفت عن الكتابة ونظرت إليها كانت تتابع لبس جواربها وتبكي. أدركت أنها تنتظر أن أسألها عن سبب البكاء كي تبدأ برواية قصة مأساوية. عن ماذا؟ ألا تعرف! القصص المكررة نفسها: الأبناء الذين هاجروا، أو قتلوا. عن انعدام شروط الحياة وعن ضيق ذات اليد. عن المشاكل العائلية التي تفجرت في سنوات الحرب. لكن بقرار سريع قررت أن لا أمنحها هذه الفرصة. هذا قرار اتخذته منذ سنوات، لأني لم أعد أحتمل. كل حديث جانبي مع أي مريض يدخل العيادة ينتهي بأن تستمع إلى مأساة تفوق طاقة احتمالك. قصص تخترق «حاجز الألم». ماذا تفعل عندما تمر فوقك طائرة حربية تخترق جدار الصوت؟ نعم كما قلت: تُغلق أذنيك بيديك كي لا يتمزق غشاء الطبلة. وهذا ما أفعله، لأن القصص التي أسمعها تسبب تمزقاً في شرايين القلب وتفلعاً في عضلاته..

كان يجب أن أقول شيئاً، وكانت تنتظر أن أعطيها فرصة الكلام، لكنني سددت طريقها فكرّرت ببلادة كلامي عن بساطة مرضها وشيوعه أيام البرد، وأنه لا يستلزم كل هذا الانفعال. هزت رأسها موافقة وقد بانت الخيبة على وجهها، ربما أتت العيادة لتتكلم فقط، مسحت دموعها ثم وضعت الوصفة في جيبها وغادرت. غادرت دون أن أمنحها فرصة الكلام. تابعت الكتابة على الكومبيوتر، قبل أن يدخل المريض التالي. كتبت في حقل التشخيص: اكتئاب ـ شرث. تأخر المريض التالي في الدخول ففكرت بوصف لحالتي، فكتبت على الورقة أمامي: أناني.. بكاء

قالت لي السكرتيرة ليس معه سوى هذا المبلغ، الذي يشكل نصف تعرفة المعاينة، قلت لها لا بأس، دخل يحمل طفلة خدودها حمراء جافة تعاني من الحكة الشديدة. فحصتها وشخصت حالتها عدت لأكتب الوصفة، فاعتذر أنه لا يحمل غير هذا المبلغ وهو يشكل دخله كاملاً ليومين. حاولت أن أعيد المبلغ، فانخرط بالبكاء ورفض العرض. ولم تجد محاولاتي إقناعه أن هذا المبلغ يستطيع أن يشتري الدواء به، ألبس الطفلة ملابسها وغادر وهو يبكي

بين النأي والزلفى. يحدث معي أحياناً أن أخلع كف اللاتكس (المطاط) أو البولي فينيل الرقيق، وأتحسس الآفة بيدي المجردة لأن كف اللاتكس الرقيق يخلق حاجزا. أفكر هكذا هي الهجرة كف لاتكس سميك يمنعك من تحسس أوجاع البلاد والعباد. التي لا تستطيع تحسسها إلا بأناملك العارية.

هي الحياة

في الأسبوع الأول صب جام غضبه على نثرة الحديد التي أصابت عينه اليسرى فسببت جرحاً قاطعاً في القرنية تطلب ترميمه ثلاث قطب في غرفة العمليات. هذه النثرة اللعينة عطلتني أسبوعاً عن عملي وكلفتني مبلغاً كبيراً.

في الأسبوع الثاني تغير موقفه من النثرة. بعد أن اطمأن الطبيب على وضع العين المصابة، فحص العين اليمنى السليمة، روتينياً، فاكتشف ملانوما خبيثة في الشبكية.

– لحسن حظك هي في مراحلها الباكرة لو تأخر تشخيصها عدة أشهر لقضت عليك. انتهى الأمر باستئصال العين اليمنى كاملة واستبدالها بعين زجاجية.

قال:

الحمد لله هذه النثرة أنقذت حياتي.

العبيد الصغار

كانت يداه مهترئة من الأكزيما. نظرت إلى راحة يده كف صغير لطفل لم يتجاوز العاشرة، لكن داخل الكف اهتراء وتغصنات لرجل مسن. شرح والده أنه يعمل في صنع الكبة في مطعم متخصص بصناعتها لذلك فهو يكثر استعمال الماء لغسل يديه. كتبت الوصفة وهمّ الصبي أن يقول شيئاً. لكن والده نهره قبل أن ينطق بحرف قائلاً:

لا توجد استراحة أنت تعلم هذا. يجب أن لا تتغيب عن عملك أبداً وإلا استغنوا عنك.

بان على الصبي الامتعاض. فتوجه الأب بكلامه نحوي. قل له يا دكتور. قل له أنه لا يحتاج لعطلة من العمل. صمت ولم أقل شيئاً

بين الزرائب

تحت إلحاح السيدة الأربعينية وافقت على أن أذهب معها لأعاين والدتها المريضة في المنزل. قالت إن البيت في حي جبرين، الذي لم أزره من قبل لكني أسمع به لأنه بؤرة من بؤر انتشار مرض اللشمانيا الجلدية. اتفقنا على موعد في الساعة الرابعة عصراً. وجدتها تنتظر قبل جسر المزارب، حيث صعدت هي وابنتها الصغيرة وبدأت ترشدني إلى الطريق. بعد حوالي خمس دقائق أشارت أن أنعطف يساراً ودخلنا في شارع غير معبد، وبانت مياه آسنة في الشارع. سألتها ألا يوجد صرف صحي؟ نفت ذلك.

تنتشر جزر من البيوت السكنية بين زرائب تربية الأغنام. رائحة المكان لا تطاق فالهواء مشبع برائحة روث الأغنام ورائحة المياه الآسنة. بعد مسير حوالي مئتي متر طلبت مني أن أنعطف يساراً، دخلت شارعا جديدا يشبه السابق، ترابي غير معبد تجري سواقي صغيرة من المياه الآسنة في منتصفه. أشارت إلى باب حديدي أن هذا هو البيت. دخلت إلى غرفة نصف مظلمة في ركنها الأيسر سيدة بالكاد تجاوزت الخمسين عاماً، لكنها مقعدة بسبب بدانتها المفرطة. قدرت أن وزنها يزيد عن 150 كيلوغرام منذ أيام قرأت أن الآية انعكست في العالم، فالأغنياء باتوا يحتفظون بوزن مثالي، أما البدانة فصارت مرض الفقراء. فحصتها سريعا بالاستعانة بضوء الجوال لأن الكهرباء مقطوعة ولا توجد وسيلة إنارة. قلت لهم إنها بحاجة إلى مشفى فنظروا إلى بعضهم وكانوا قد صاروا ثلاثة أشخاص. شاب عشريني يبدو من وجوده في البيت في هذا الوقت، أنه عاطل عن العمل، وسيدة ثلاثينية، والسيدة التي حضرت معي. كي أخفف الأمر قلت لهم اذهبوا إلى المشفى الوطني فهو مجاني، لكنهم عادوا يتبادلون النظرات بصمت. أخيرا قالت السيدة التي حضرت معي إنهم لا يستطيعون الذهاب بها إلى أي مكان. فهم لا يستطيعون نقلها. كما أنهم لا يستطيعون البقاء عندها و.. و..

ـ ما العمل اذن؟

كتبت لها صادات حيوية حقنا بالعضل، وطلبت منهم أن يخبروني عن وضعها خلال يومين. إن نجت من الموت ستكون معجزة. في الخارج كانت رائحة المكان لا تطاق والغثيان لا يفارقني.

هل كنت هناك قبل أربعين عاماً؟

دخلت العيادة سيدة في الخامسة والستين من العمر كما ورد في إضبارتها. بعد أن رحبت بها. سألتني:

لم غيّرت مكان عيادتك؟

أجبتها مع ابتسامة:

هي في مكانها لم أغيرها.

لم تأبه لجوابي، تابعت كلامها «راجعتك في عيادتك القديمة في بداية شارع المرابط قبل أربعين عاماً».

أجبتها وأنا ابتسم:

أنا لست عجوزاً يا خالتي، لم ينقض على ممارستي المهنة كل هذا الوقت.

وأردفتُ:

قبل أربعين عاماً كنت ما أزال في المرحلة الإعدادية من الدراسة

نظرت إليّ من جديد. بدا أنها اقتنعت. قالت:

ـ نعم تبدو شابا.

فحصتها وتحدثنا عن شكايتها الحالية وعن علاجها، ثم ناولتها الوصفة، لكن قبل أن تغادر عادت لتروي تفاصيل زيارتها لعيادتي الواقعة في أول شارع المرابط قبل أربعين عاماً. كان ابنها الكبير طفلاً وقد أصيب بمرض جلدي غريب، وأنا الوحيد الذي شخصت المرض وعالجته بنجاح. ومنذ ذلك الوقت لم يعاوده المرض. لقد كبر وصار رجلاً ولديه ثلاثة أطفال. منذ ذلك الوقت قبل أربعين عاماً أدعو لك كل صلاة فجر بالعمر المديد والرزق الوفير، ثم عادت وسألتني لم غيّرت مكان عيادتك في أول شارع المرابط. وقالت إنها تعبت حتى وصلت إلى عيادتي الجديدة.

أعدت على مسامعها ما ذكرته سابقاً عن عمري وتاريخ افتتاح عيادتي. وأني لم أغيّر مكانها قط. لكنها لم تكترث لإيضاحاتي، بل أضافت أنها في المرة المقبلة ستأتي مع ابنها الذي عالجته أنا قبل أربعين سنة في عيادتي القديمة. فقد حدثته عنك كثيراً منذ كان طفلاً. لقد تألم كثيراً قبل أن يشفى على يديك. لم أعترض هذه المرة بل آثرت الصمت. شيعتها بنظراتي وهي تغادر باب العيادة في هذه اللحظة خطرت لي فكرة جنونية.

ماذا لو كان كلامها صحيحاً؟

يحدث في بلاد الزيت والزيتون

قلت لها:

قبل الاستحمام ضعي لها فوق قشرة الرأس السميكة زيت زيتون لمدة ساعة.

لم يخطر لي أن أسألها إن كان عندها زيت زيتون لأني اعتقد أن توفره، في كل بيت، أمر بديهي. بعد قليل من التفكير وبإحراج ظاهر باغتتني بسؤال

هل أستطيع أن أستعيض عن زيت الزيتون بزيت آخر؟

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي