أحن إلى بطن أمي!

2023-05-12

هايل علي المذابي

كان هناك طفل صغير اسمه هايل لطالما حدثتني عنه أمي، تقول كانت له لثغة في لسانه وكان حاذقا جدا، وفي أيام انتشار وباء الكوليرا أصيب هذا الطفل ومات، لم يسلم بيت واحد في القرية من الكوليرا وكان موت طفل أو اثنين من كل بيت بمثابة قربان للكوليرا ليكف شره عن بقية أفراد الأسرة.

مرت سنوات قليلة وولدت أمي طفلا آخر اعتبروه بدل فاقد وسموه هايل أيضا.. إنه أنا وقد نجوت من الوباء أيضا وعشت أكثر من حياة، وخضت أكثر من رحلة والآن تشير الساعة إلى الثانية عشرة بعد منتصف الليل مؤذنة ببلوغي الأربعين عاما.. إذن اسمي كما أخبرتكم هو هايل، وأنا بدل فاقد، وأعيش حاليا في منزل بناه لنا أبي، أعيش وحيدا في الطابق الرابع، ويحدني من الشمال بيت الحضرمي، ومن الجنوب مطبخ بيتنا، ومن الشرق سطح المنزل، ويحدني من الغرب علي أخي. قضيت في بطن أمي ثلاثة وعشرين مليون وثلاثمئة وثمانية وعشرين ألف ثانية أتصور شكل الحياة وأحلم بالخروج إلى عالم البشر؛ وقضيت في عالم البشر مليارا ونصف مليار ثانية هي كل عمري حتى هذه اللحظة؛ وما زلت أحلم في كل ثانية مثلما أحلم الآن وقد بلغت الأربعين بالعودة إلى بطن أمي. رغم ذلك فلربما قد أعيش حتى العقد التاسع من عمري لكنني أثق تماماً أنني وحتى في ذلك العمر لن أبلغ من المعرفة حول السعادة أكثر مما بلغته عنها في هذه اللحظة، وسأكتب حينها ما أفكر به الآن: لقد عشت تسعين عاماً، لكن أجمل أيام عمري التي عشتها هي تلك التسعة أشهر التي قضيتها في بطن امي!

أحن إلى بطن أمي؛ أحن إلى حنان حبلها السري ومروءتهِ وكرمه.

أحن إلى ذلك المهد في مشيمتي؛

أحنّ إلى تلك الخلوة المقدسة التي لا ينازعني فيها أحد؛

أحن إلى ذلك المستحيل الذي كنت فيه؛ والذي سأذهب إليه؛

أحن إلى ذلك الغيب السري العجيب؛

أحن إلى كينونتي الأولى؛

أحن إلى بداياتي التي جئت منها والتي سأذهب إليها؛

بعيداً عن قيل أهل الأرض وقالهم، وشهواتهم ونزواتهم، وتكالبهم وتناحرهم.

أحنّ إلى ذلك البرزخ المطلق؛

أحن إلى تلك الطمأنينة،

أحن إلى ذلك الأبد الأزرق اللانهائي.

كاتب يمني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي