العبور الى الحرية قصص قصيرة عبدالكريم محمد النهاري

خاص بشبكة الأمة برس الإخبارية
2008-09-09

 

" العبور إلى الحرية "

قصص قصيرة

عبدالكريم محمد النهاري

 

 

 

تقـــــــــديم

بقلم أ. د. صبري مسلم *

" العبور إلى الحرية " مجموعة القاص الشاب عبدالكريم النهاري ترهص بحصاد قصصي وفير لا سيما أن هذه المجموعة القصصية تضمنت ثمان وعشرين قصة قصيرة إحداها العبور إلى الحرية التي استأثرت بعنوان هذه المجموعة القصصية . وحسناً فعل القاص حين اختار هذا العنوان " العبور إلى الحرية " في عهد يطمح إلى الحرية ويبشر بها ويصبوا إليها وعلى كل صعيد وان كان مضمون هذه القصة يرمز إلى حرية المرأة في ظل الزواج السعيد المبارك من المجتمع . وليست هذه القصة أفضل قصص المجموعة بيد أن عنوانها اللافت يستأهل أن يكون عنواناً للمجموعة البكر للقاص .

ولا أود هنا أن اشرح القصص أو أزود القارئ بخلاصات عنها لأن من شان هذا يفسد متعة القارئ بها إلا أنني لمستُ تنوعها من حيث المضامين والموضوعات التي انطوت عليها القصص وتضمنتها حيث عرض القاص من خلالها أكثر من هاجس يخص المجتمع اليمني الناهض وهمومه وطموحاته فضلا عن أن القاص ينوع في مرجعيات شخصياته من حيث انتماؤها إلى التاريخ البعيد أو القريب أو الراهن فضلا عن قصصه على لسان الحيوان حيث يكون الحيوان بطلا لبعض قصصه سعيا صوب الترميز  الفني وتفادي المباشرة والتقريرية والتكرار مما يعكس طموحاً مشروعاً من القاص وباتجاه تحقيق الذات والتعبير عن الموهبة الحقيقية والتطلع إلى المستقبل بثقة وريادة أجواء قصصية جديدة .

وما ادعوا إليه القاص هنا عبر هذا التقديم هو أن يضبط أداته الفنية واعني بها  اللغة إذ يحتاج القاص إلى أن يستكملها وربما يكون للممارسة دور في صقل موهبته وإتقان لغته وان كان القاص على  وجه العموم يميل إلى السرد  التصويري إذ يرسم صورا حية عبر سرد قصصه الشيق ومن ذلك استهلالة قصته (انقلاب) التي يرد فيها (بزغ الفجر بعد ليلة هادئة قضتها خلية النحل , يوم ربيعي استأنفته أصوات العصافير بعد توقف ضفادع عن نقيقها المتواصل منذ الساعات الأولى من الليل , الخضرة تفترش الحقول وتغلف الجبال , أزهار زاهية تتوج خضرة وتبعث روائحاً تتراقص لشذاها فراشات خلعت عليها الطبيعة زهوها ....) ص 40.

وإذا كان هذا النص المقتبس وصفيا فان القاص عبدالكريم النهاري يدرك أن الحدث حين يتصاعد فانه يحتاج إلى جملة سردية متوترة تنمو مع نمو الحدث . لمست هذا من خلال أكثر من قصة ومن ذلك على سبيل الاستدلال قصة " عنوسة " التي يرد في سردها (ابتلعت لعابها , كست الحمرة وجنيتها , تصببت عرقا , سقطت عيناها إلى الأرض , تنفست بعمق , أطلقت عيناها الدمع , حبست نحيبها في جوفها , رفعت يدها اليسرى وغطت بها نهديها , اجترت أنفاساً عميقة , جذبت يدها اليمني وسدت على فمها بعد أن بانت خفاياه , كان وقع أقدام الضيوف يتجه إلى الخارج بعد رفض طلبهم الذي قدموا من اجله ) ص13 . بحيث يتصاعد السرد من خلال الجمل السردية القصيرة المتوترة مع تصاعد أحاسيس بطلة القصة وتوترها وحسبما أظهرها سياق القصة .

والمهم من خلال كل ما ورد في هذا التقديم أن يثابر القاص عبدالكريم النهاري وان لا يتوقف عند هذه المحطة المهمة وهي محطة البدء بيد أنها تبشر بخير قصصي وفير إذا ما تجاوز النهاري هذه القصص في نتاج قادم عبورا إلى الحرفية و المهارة بعد أن عبر إلى الحرية في هذه المجموعة القصصية .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شرائع الغاب

 

       نسيم بارد ينساب من بين الأشجار , يتراقص لوقعه الأزهار وهي تشكل لوحة نسجها الربيع بألوان الطيف الزاهية, من حولها يتصاعد أزيز نحل تمتص من الأزهار رحيق الربيع , فراشات تتراقص , مياه تتسَلل من بين الخضرة وتشق الواحة إلى قسمين .

     العجوز (قائد) آخر أفراد العائلة السلطانية التي اتخذت من الواحة مقراً لحكم سلطنة (آل سعيد) التي انهارت آخر معاقلها على أيدي (التنين) , لم يبق من معالمها سوى كوخ لاذ إليه العجوز وزوجه بعد أن أغفلت الأحداث فرص استمرار حياة البذخ التي تربيا عليها في كنف جدهما سلطان (آل سعيد) , الربيع العاشر منذ دفن زوجته جوار جذع شجرة الزيتون المقابلة لمدخل الكوخ , ينتقل بين الخضرة للتغلب على ظروف الحياة التي مرت به , استقر إلى جوار شجرة الزيتون ,  يراقب الأفق الممتد أمام أهدابه التي أصبحت كخيط أبيض تشتت على حواف عينيه , فترات طويلة لم يزر الواحة غير طيور وقليل من صيادين , ظل يتصفح الأفق , خرجت أنثى الحمام من بين أغصان الشجرة التي وضعت عليها عش محتضن لبيضاتها الثلاث , الصغار تحاول تفتيت الأغلفة من حولها والخروج إلى حياة جديدة , الذكر يساعد الصغار على الخروج ويقوم بحراسة العش حتى تعود الأم ومعها دقائق الغذاء الذي ذهبت لجمعه , غراب يقترب ساحة الكوخ يصعد أشعة الشروق بجناحيه , يرسم ظل طويل يغطي الساحة , سقطت أغشية البيضات الثلاث إلى جوار قدمي العجوز  وهو يستمع أصوات الصغار الثلاثة وهم يرفعون مناقيرهم إلى الأعلى بحثاً عن دقائق الغذاء المنتظر , منذ بدأ زوجا الحمام في نسج العش ووضع البيض , وهذا الغراب يترقب ويزور الساحة في فترات متعاقبة , العجوز يناجي سحر الواحة ,

يتذكر الزمن الذي مر به , الحيوانات والطيور أصبحت جزءاً من مفردات حياته , تؤنس عليه من العناء والغموم التي لم تتوقف منذ أن أغارت جيوش (التنين ) على الواحة وفغرت أحشاء أطفاله الثلاثة أمام عينيه , الأم في طريقها إلى صغارها ودقائق الغذاء على منقارها وجوف أحشائها , الذكر يتصارع مع الغراب , وجه إليه صفعة قوية بإحدى جناحيه أردته أرضاً , العجوز يحاول رمي الغراب بقطع من الصخر  , جمع بين مخالبه الصغار الثلاثة .

انطلق.. ظلت الأصوات  تنتشر في الأرجاء , الأم في طريقها إلى شجرة الزيتون , تسمع أصداء صغارها وهي تجوب الأرجاء طالبة النجدة , سقط احد الصغار إلى النهر , تقلب الذكر , تحاول معرفة مصير صغارها , تبحث في أرجاء الواحة , العجوز يسند ركبتيه على الساحة ويجهش بالبكاء , الشمس تودع الجميع وتترك الواحة للراحة بعد يوم مجهد , العجوز يعود إلى الكوخ بينما يظل الحزن والقهر يقتل الجمال , الغراب ينظف مخالبه ومنقاره , حركة المياه تدفع معها الريش الرهيف الذي كان يغطي جسم الصغار , يظهر القمر بلون معتم لا يستمر حتى يعود تدريجياً إلى بهائه  وضوئه الفضي الذي يعممه بعد إن دنست شرائع الغاب صورة الحياة في أرجاء الواحة ...

16/11/2002م

ذمار

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اندفاعات

عندما كانت الصلوات والابتهالات تصعد عبر الأشعة التي ترسلها الشمس على أركان الحضارة الصخرية، كانت قوة الإرادة تجبر صلابة الصخر على التشكل .

حين كانت الخيرات تبذل حلاوتها، كان فأراً عائد على الرمال التي تتشبث بها أوتاد البساتين وجذور حضارة (الجنتين) التي تدغدغها برودة المياه المتسللة عبر صلابة الصخور المكونة لـ (السد) الذي تفضي إليه مياه الروافد، كوابيس تعكر صفو الأحلام مبشرة بالاندثار، صمت يطبق على القرابين حين توجه إليها التوسلات والاعتقادات، الشمس تتوسد عتمة السحب وهي تلقى ما جمعته من قطرات على أكناف الروافد التي تمد يدها، الروافد تلقي كتل المياه إلى السد عبر فمه الفاغر، عجزت صلابة الصخور عن التصدي للقوة التي تدفعها وهي ترتطم ببعضها، الصخور تركض أمام الاندفاعات التي تركض خلف الرمال المتوسدة أوتاد البساتين وجذور الحضارة التي عرفت بـ (سبأ)، طوت الاندفاعات معالم الحياة، الفأر يسير ويسير خلفه ذيله وألسن الاندفاعات ، الأرض تلقى على وجهها الجبال حين شتتت أعضاؤها، القرابين تحاول النهوض والعار يلاحقها، الشمس تطوي أشعتها حول قرصها الذي غطته الصفرة، والفأر يحاول الإفلات من نظرات الشمس التي تقترب منه وهو يحمل مؤخرة ذيله على أطراف مخالب يده اليمنى، شعر بأن لعنة الشمس تتبعه حين وجهت إليه خيوط الكارثة، اللعنة تتبعه وهو يركض وتركض خلفه أصوات الاندفاعات، بدأت الشمس تحتضر حين ربط جزء من ذيله حول عنقه الذي يتدلى منه الجزء الآخر، كانت الاندفاعات تستقر أمام الصخرة التي صعد إليها ورفع جسمه على قدميه  معلناً انتصاره على الشمس ..                  وصاب 16 / 12 / 2001

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حفار القبور

 

       ليل واجم يشاطر امرأة تتدثر عتمة مكلومة وتتمرغ بنواح بين جدران من صفيح مهتدى, يبكي بتردد تيارات رياح جافة تختال صقيع انداح ظهر الصفيح – لينهمر دمعاً – المطل على رتل تصطف أمامه أحياء المدنية في صمت, وهو يسرد تقلبات زمن شهده .

     - (رحمه الله ) أفضل من أأويت رغم لعنات أتلقاها من زوجته مع اشراقة الصباح وجنبات الليل ... اختتم السرد بسورة الفاتحة و أهداه بعض دعاء.  

قال حفار القبور في نفسه وابتسامة خجلى ترتسم على شحوب تفاصيل وجهه المنصب عرقاً : يا لها من مدينة بخيلة – وهو يفرك كثة  ذقنه بأصابعه – قبرا واحداً في اليوم.. وثمن بخس ..ودفع مؤجل !!

     صمت مستفحل لجة عتمة.. وثمة لهب يبرز من شمعة يحرق ما حوله من ظلام لتظهر المرأة – وهي تبكي زوجها – تلقى دثار حالك أمام مرآة تستند احد الجدران .

     جسما عاريا يلتصق بوجه المرآة.. يتراقص بتسلل ثمة رياح إلى لهب الشمعة عبر نخر مقابل .

     وهو يفرك حكة شهية تنبض من بطن كفه الأيسر, استل حفار القبور جسمه من فراغ عتمة الليل متذكراً المال الذي ستسوقه إليه زوجة المتوفى مقابل القبر .

     وبابتسامة تندس بين وجهه,همس في نفسه وهو يستلقي الفراش : ميسرة .. ميسرة(1) في نهاية تثاؤب.. صر جفونه ليخلد في سبات .

     بذبول أعقاب الشمعة الأخيرة يخفت وجه المرآة العاري تدريجيا ليبقى ثمة ظل يزخه طيف لهب خافت في فراغ يشاطر الليل عتمته.

     بشهية تشتم اذغالها وتعقص شعرها , سطوع شمس حاد يداهمها أمام المرآة وهي تنضد ما يمكن دفعه لحفار القبور ثمنا لقبره .

     بدموع رقراقة ودثار واجم يغطي اطمارها, خرجت نحو المقبرة بخطوات يذبحها الحزن  - كي لا يبقى في ذمة المرحوم شيئاً .

     سكون مطبق, وهي تقترب بعجل لتلقي إليه دعاءاً كاد أن يسقط من حافة لسانها عند المدخل .

     شخير يتجاذب أنفاس حفار القبور على فراشه الذي يمنحه لذة في النوم برائحته الجنائزية العبقة , وبشخيره المشابه لصوت منشار الخشب تذكرت ثمن القبر .

     تخطت الموتى نحو غرفة تنزوي أقصى المدخل , جلست على حافة فراشه في صمت , بصوت مجهش قاطعت شخيره , نهض على أثره , فرك عينيه الغائرتين وغطى أجزاء جسمه قائلا في نفسه ومحملقا إليها وهي تلقي دثارها جانباً :

     - المرأة التي توفى زوجها جاءت تحمل المال .

     وهي تقترب قال : شكراً لك.. يالك من امرأة وفية .

-        اسمع : كم ثمن القبر ؟

-        الم أخبركم بالأمس ؟

-        نعم ولكن لم يكن الوقت مناسباً للمساومة .

-        أنا لا أساوم .. وإذا لم يكن حالكم ميسورا فنصف الثمن..

     اقتربت متوقفة عن الكلام , رمقته عينيها وهي تكاد ترتمي حضنه .

     هنيهة.. اختفيا قبل خروجها من المقبرة , تتمتم بالرحمة والمغفرة لزوجها , وبعد الأربعين وعدها قبل اختفائهم أن يحفر لها قبراً جميلا مفصلا تتذكره وصنيعه كلما أحست جوفه بالراحة , شرع بأخذ قياسها لإنجاز القبر الموعود , اختفيا طويلا جوف الفراش, خرجت من خفيتها تترجاه بإبقاء مجالا مناسبا بمقدار جنين جوار قبرها الجميل .

ذمار 19/7/2003م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

امتزاج الدموع

 

دفعت الرياح شراع المركب على ظهر الأمواج  تقذف به هنا وهناك، انزوت نحوي عندما أحست بالسنة الأمواج تقترب منها ، أطلقنا صرخة أخيرة على مشارف المدينة .

ظهرت المدينة أمام شراع المركب في أبهى صورها تعانقها أشعة الغروب ، حركت (ليلى) المجداف بسرعة عندما انسابت إلى جوفها رائحة المدينة التي ظهرت بعض معالمها ، سالت الدموع من عينيَ عندما شاهدت الشاطئ وحركة الصيادين تسيطر عليه ، تذكرت اليوم الذي أبحرت بي وبغيري سفن العدو ، لم تمهلها الدموع كذلك عندما لمحت المنازل والصيادين تقترب منا ، عشر سنوات مضت من عمرها وهي تقاسي نكد العيش بعد أن اختطفت وهي طفلة صغيرة , وألحقت بالجزيرة التي نفي إليها كل أطفال سادة المدينة ، صرفت نظراتها نحوي وقد رسمت على  شفتيها بسمة رقيقة ، لا أزال أحلق بنظراتي في آفاق المدينة ، رست نظراتها على عيناي لتعيد لقطات رسمتها براءة الطفولة من أزقة المدينة قبل بداية الأحداث ، بللت عينيها صور الماضي بمياهها المالحة ، لا تزال نظراتها المرهفة ترصد نظراتي ،  الشمس راسية على حافة البحر,الأمواج تحاول جذبها إلى الخلف ، اقترب الشاطئ, المدينة أمامنا ، الرياح تطلق صفيرها ،  شرع البحر في نبذ عرائسه و بدأت الأمواج تتلاطم ، أشعلت المدينة قناديلها ,  دوت صرخات فرحتنا في الآفاق…

ذمار في 12 / 11 / 2001

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مخـاض الرمـال

 

عندما وارت (جربان) * جثمان( الزير سالم, أبو ليلى المهلهل) في أحشاء وديانها ، كانت تستمع لوصيته الأخيرة التي نطقها لسانه حين أجهز عليه العبدان ، السنوات تنشر عتمتها على مفردات حياته التي تجتذب الحضارات المتفرقة معالمها , بعد أن أسدل الماضي ستار النسيان على (جربان) وأحداثها و فرشت بالرمال المتحركة التي جلبتها زوابع الأحداث , الأصداء تتعالى وتندثر في السماء التي تغلف تضاريس العالم الواسع ، كان المعجبون يحاولون جمع اللآلئ المندثرة من أصداء الحياة التي رافقت (الزير) ، وهو يدس عظامه بين عتمة الرمال ،  يعكفون أمام صفحاتهم , يختلقون مفردات تنسب إليه بعد أن تتوج بلؤلؤة من لألئ العقد المندثر ، ارتخت عظامه - بعد أن ظلت مكانها الأقلام – وأحست بنعومة الرمال قبل أن تسوق الرياح أحداثا تكاد تقترب من الحياة التي غطتها الرمال ،  تذكرت الأرض وصيته بكتمان  السر عندما أجهز عليه ، انكمشت العظام مشكلة هيكل( الزير) بعد أن رددت الرياح اسمه وبعض معالم سيرته ، انتفضت عظامه ، حاول النهوض ليصحح الإشاعات  بنفسه ، منعته الرمال المنهالة على رفاته ، أطلق  سخطاته  من جوف العتمة التي تغطي الحقائق ، ظل السر يراود رمال الأرض خوفا من أصابع اللصوص ،  الكلمات تحترق تحت طبقات الرمال التي تعسرت في المخاض.

وصاب في 15 / 12 / 2001

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عنـوسـة

       

ابتلعت لعابها، كست الحمرة وجنتيها، تصببت عرقاً، سقطت عيناها إلى الأرض، تنفست بعمق، أطلقت عيناها الدمع، حبست نحيبها في جوفها، رفعت يدها اليسرى وغطت بها نهديها, اجترت أنفاساً عميقة ، جذبت يدها اليمنى وسدت فمها بعد أن بانت خفاياه , كان وقع أقدام الضيوف يتجه إلى الخارج بعد  رفض طلبهم الذي قدموا من أجله.

 السحب تشد رحالها بعد إغارتها على القرية، ظهرت الشمس على حافة الجبل، و على الجهة الأخرى قوس قزح بألوانه الزاهية، خرج سكان القرية إلى حقولهم يتلذذون بمناظرها بعد أن أغارت سحب الصيف، هي واحدة من عشرات فتيات  القرية، غزت العنوسة بشرتهن الحنطية، وأصابهن الزمان بمآسيه،  تراقب السحاب من جوار نافذة غرفتها التي أطبقت على جدرانها الوحشة، وقفت نظراتها الحائرة على حافة المدرجات تتطلع إلى المياه وهي تعكس خيوط الشمس الهادئة، ظلت تراقب الأرض التي أصابها الزمان كذلك, وأصبحت غير صالحة للزراعة لفقدان خصوبتها،تخيلت مصيرها الأبدي الذي سيحسم خلال لحظات، ودَعت نظراتها الأرض الجدباء، ألبست وجهها السرور، بدأت بترتيب غرفتها، لم تعد تسمع إلا صوت الساعة الحائطية مدويا "تك .. تك " العقارب تسير ببطء ، و ضربات قلبها تزداد باطراد، تصرف نظراتها إلى المرآة الكبيرة المغطية لجانب من الجدار، وعليها صورتها التي أخفت معالمها بقع دهن داكنة وذرات غبار عالقة على السطح، مسحت ما علق بوجه المرآة بعد أن أرتفع صوت الضيوف  يتناقشون مع والدها،          ظهرت صورتها واضحة على المرآة وهي ترتدي ملابس احتفظت بها لمثل هذا اليوم ، يتبادل والدها النقاش مع ضيوفه، بدأ النقاش يفرز حلاوته، لا تزال جوار اللوح الزجاجي الذي ارتسمت عليه صورتها، شكت إلى المرآة الجراح منذ أن عرفت أسرار الحياة , في الثانية عشرة من عمرها, تقدم يومها أحد شباب القرية لطلب يدها ، حينها أعتذر والدها بسبب سنها الصغير، تتابعت  الزيارات لطلب يدها إلا أنها لم تلق ترحيب من والدها الذي يعتذر دائما أو يطلب أموالا طائلة، تذكرت والدتها التي قضت نحبها بعد أن ولدتها بعشر سنين، و اليوم الذي  دخلت  زوجة أبيها  إلى هذا البيت، لملمت ما تبقى من شجونها الذي سلبه الزمن، ابتسمت في وجه المرآة عندما أنتابها الأمل، تذكرت شتاء العام الماضي حين أجتمع الضيوف في المجلس وبدأ حديثهم -كالذي تسمعه - حين قدم شاب يطلب يدها , إلا أن والدها حول الخطبة لأختها الصغيرة – غير الشقيقة تذكرت عمرها الذي أشرف على السابعة والعشرين، أدارت ظهرها إلى المرآة عندما سمعت الشاب – الذي قابلها قبل ثلاثة  أيام ووعدته بقبوله زوجاً إذا وافقت (خالتها) ووالدها – يتبادل الحديث مع والدها، سلطت اهتمامها ، ركزت سمعها أكثر، ألصقت أذنها على ثقب الباب، طلب الشاب يدها من والدها ، أمتنع والدها عن الإجابة، كرر الشاب طلبه، ارتفع صوت والدها: لماذا لم تطلب يد أختها الأخرى حتى نوافقك طلبك؟ نهض الضيوف، اندفعوا إلى الخارج، كانت الشمس قد تدحرجت خلف الجبل ... 

                         ذمار في 2 / 7 / 2001

 

 

 

 

 

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي