فيروز التي ينتظرها طفلاي!

2023-03-30

أماني رشماوي

منذ أن علمت بأنني حامل بتوأم وأنا أغني لفيروز، تحديدا في الصباح. لم أفكر كثيرا في الموضوع إلى أن انتبهت منذ مدة على الفيديوهات التي قمت بالبحث عنها في يوتيوب. وكانت جميعها لفيروز، وعندها صرت أفكر بعلاقتي مع فيروز.

لقد كنت أسمع فيروز صباحا مع أمي، عندما كانت تقوم بأعمال المنزل. أمي التي ربت 6 أطفال بتعب ومشقة، كانت تستمع لفيروز كل صباح وتقول لي أو لأخواتي أي أغنية من أغاني فيروز هي المفضلة لها. لا أتذكر أنها كانت تغني مع فيروز، لكن أتذكر ملامح وجهها وهو يتنور عندما تقول فيروز «شو هم كنا صغار». وتوالت السنين ووجدت نفسي في غربة أود أن أقول عنها اختيارية، لكن من الصعب تحديد ذلك، فكانت فيروز صديقتي التي تشعر بي عندما لا أستطيع أن أخبر أحدا بما يدور في خاطري. كانت تقول لي «لملمت ذكرى لقاء الأمس في الهدب» وتخبرني عن القمرة اللي ما طلعت عالشجرة، وتاخدني على بلادي. والكثير الكثير من اللحظات التي لم أجد فيها الكلمات المناسبة فكانت فيروز منجدتي.

لم أكن أستمع لفيروز كل صباح، لكن عندما تأخذني تلك الموجة من الحنين لحياة أخرى لأناس آخرين لم يعودوا هنا، أو ما زالوا، لكن لم تسعفنا الطرق أو الحظوظ للقاء بهم، كانت الموجة تطرق قلبي في الصباح قبل الذهاب إلى العمل، فكنت أبحث عن الأغنية التي تناسب حالتي، أو الأغنية التي ما تزال كلماتها عالقة في رأسي وكنت أدندنها قبل أن أستمع لها. تصدح فيروز في المنزل. أغني معها وأنا أبتسم في كثير من الأحيان. الحنين يجلب الابتسامات، أو هكذا أعتقد، فهي أفضل من الدموع، وتحديدا قبل يوم طويل أقضيه في أروقة المحاكم.

منذ شهر تقريبا أو أكثر بقليل، بدأت أستمع لفيروز كل صباح، وتحديدا الأغنية التي لا أكلّ و لا أملّ من سماعها «غيبي ولا تغيبي يا نجمة كفرغار». لا أعلم أين كفرغار وهل ذهبت فيروز إلى هناك لترى النجمة التي تغيب ولا تغيب، ولا أعلم ما إذا كان أطفالي سيذهبون الى هناك أو سيستمعون إلى فيروز عندما يكبرون، لكنها أصبحت صلاتي لهم في الصباح.. أنا وطفلان ونجمة فيروز التي لا تغيب. وسألت نفسي لماذا؟ هل يسمعان؟

ماذا يشعران الآن وهما في حجم حبتي ليمون؟ هل سيعرفان أن هذه السيدة ذات الصوت الملائكي تسكن في بلد ما بعد المحيط البعيد، تغني لهما كل صباح حتى يكبران؟ لماذا؟ لم أحتج للتفكير طويلا، لأنني أعرف، وما أن واجهت نفسي بالسؤال حتى جاءت الإجابة، صوت فيروز هو ذلك الحبل الخفي الذي يربطني بأمي، بلغتي العربية في الغربة، برائحة الكعك الطازج في شوارع البلدة القديمة في الصباح، بالمرجوحة التي بناها أبي أمام المنزل، والتي كنا نقفز منها أنا وأخواتي عندما تكون عالية في السماء، بقصة «حديدون والغولة» التي كان يقصها جدي علينا وقت الغداء والعشاء، وأي وقت آخر طلبناها منه، وكنا نتفاجأ دائما بنهايتها على الرغم من أننا سمعناها عشرات المرات قبل ذلك، بالنعنع والمريمية التي كانت تزرعها جدتي، بالجبل الذي كنا نتسلقه كل صيف لنأكل وجبتنا المفضلة على أعلى نقطة فيه «ليمون وملح» نأخذ الليمون الحامض وسكينا وبعض الملح في كيس، وعندما نصل إلى أعلى الجبل، نقطع الليمون إلى شرائح صغيرة ونضعها في الملح ونأكلها، هل هذه وجبة خفيفة لأطفال؟ لا أعلم لكنها كانت المفضلة لدينا، وطالما تشاجرنا على من سيأخذ القطعة الأخيرة، ومن سيلعق الملح من آخر الكيس.

صوت فيروز هو منبع الذكريات وصوت الهواء يحرك أغصان الزيتون الجافة في الشتاء، هو رائحة القهوة وكتاب لمحمود درويش يحكي فيه عن الحياة والموت والحب والانتظار، هو الشوارع المزدحمة في شهر رمضان، وشجرة الميلاد. صوت فيروز هو حياتي أنا التي لطالما كانت فيروز جزءا كبيرا منها.. صوت فيروز هو الحياة التي لن يعيشها أطفالي.

هل يفتقد الإنسان حياة لم يعرفها، أو ذكريات لم تكن له؟ أشعر بالحزن في بعض الأحيان، لأن طفلي ستكون لهما حياة مختلفة عني تماما. لن يكبرا على أصوات الباعة المتجولين، أو على صوت الأذان فجرا. لن يسمعا حكايا جدي وجدتي أو حتى أبي. هل هذه الأصوات مهمة إلى هذه الحد؟ لقد كانت مهمة بالنسبة لي. كانت تأخذ خيالي بعيدا معها وتفتح لي أبوابا أنسج فيها عالما من الحكايات والأحلام، وصوت فيروز كان هو الأساس. هل سيعرف طفلاي ما أشعر به؟ هل سيحبان صوت فيروز؟ لا أعلم.. لكنني أظن أنني إذا استمررت بالغناء لفيروز لطفليّ سأفتح لهما بابا على عالم والدتهما السحري وسيستطيعان أن يشعرا الحنين في كلماتها لبلد ما، لا يعرفانه فيقرران زيارته يوما ما وتعلم لغته.

ويحضرني الآن صوت صديقي كريم وهو يصدح في الغناء في شوارع لندن، غير اّبه بمن يسمعه أو يفهمه «يجي يوم ونرد لاهلنه، يجي يوم الدرب يمشي بكيفه وياخذنا لوطنه». أعلم بأن مظفر النواب ليس بفيروز، لكنه عالم آخر أحلم بأن يقوم طفلاي باكتشافه.

كاتبة فلسطينية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي