الأشجار الأُولى

2023-03-29

عمر أبو سمرة

هذه آخر الخطوات، وتلك الأصوات ليست إلّا آخر أصوات أسمعها؛ كنت أمشي وحيداً على الجسر الكبير. أمشي وحيداً، أفكّرُ وحيداً، أستنشقُ السماء وأموت. ويخطر في بالي بأن فكرة نموّ الأشجار لا تكتمل إلّا بوجود الكنتاتا، لأن هذه الحكاية التي بدورها تكون حكايتي، حكايةٌ عن الأشجار التي من حولنا. لكنها كنتاتا موسيقية أيضاً، والكنتاتا حسب التعريف العِلمي؛ هي قطعة موسيقية سردية متوسطة الطول للأصوات بمرافقة معزوفات، وجوقات، وأوركسترا، وهذه الكنتاتا المزدهرة والبائسة جدّاً في آن، هي كنتاتا ترافقها الأشجار.

لكنْ في تلك الأزمان، حين خسرتْ بحيرة طبريا نصف عذوبتها، وكانَ آنذاك كلّ شيء يُقاس بالفراسخ؛ تفشّت الأوبئة والطواعين في المدينة. هلك الزَّرع، وجفّت التربة، وذبلت الأشجار، وتضوّرت البطون جوعاً. حدث ذلك بعد معركة الأقحوانة، وحينها لم يكن أمام جدتي ناديا الفاعور سوى الهرب. وبينما ينشقّ النهار إلى نصفين، والليل يفقد قدرته على التكاثر، يُصبح كلّ شيءٍ قابلاً للاضمحلال والتقشّف في نظرها.

أما النجوم، فلا تسطع في عينيها، إلّا بعد أن تراهُ راقداً في مهدِه، وتحكي له كلّ تلك الحكايات. قَد تَكونُ بَغيّاً، امرأة لا تصلح أن تكون زوجة لجدّي، لكنه على الرغم من ذلك أحبّها بشدّة، وهي بدورها أحبّته حبّاً جمّاً لا يعرف القهر. والآن هي ميتة، ويُخيّل لي بأنها لا تعرف الموت، بل إنها تعيش في عالم آخر، حلمها أن تصبح شاعرة جيّدة بقصائد رديئة جدّاً. والحلم الذي نعرفه يبدأ دائماً من مكان ما، قبل هذه اللحظة، إنه ببساطة يعود إلى أعوامٍ نسيتها الأذهان، وفقدتها العقول.

■ ■ ■

وبينما أخطو أولى خطواتي نحو البيت، وأفكّرُ في جدي؛ جئت أنت يا جدي، ابن إنسان يأكل ويشرب، ويتجوّل في مرج ابن عامر، وتعلم أنّ مرج ابن عامر يقطع فلسطين باتجاه الغرب - شرق ليوصل بين وادي الأردن وجبل الكرمل، لكنك تبقى تتجوّل في مرج ابن عامر، والله ينظر إليك بسخط، بينما تحارب في معركة مجدو بسيفك، لكنّ الله يقرّر أن يطردك من ملكوته، يطردك من فلسطين، وأنت تخبره تاريخ بلدة بيسان كلّها، وهو يصرّ أن يتخلّى عنك، ويطردك من أرضه.

فعلاً يا جدي، لقد وُلد المسيح في بيت لحم أيام هيرودس، لكنّك مطرودٌ من فلسطين، ويجب أن تغادرها، محال أن تبقى هنا. وتعلم أنّه في البدء كانت الكلمة، وبعدها كنتَ أنت، وحدك، ليس فقط جدّي بل نازح من فلسطين، تحارب نابليون فوق سور عكّا، تترك ناديا تنوح وحدها في أقاصي الليل، بينما تجمع قصب السكّر والزيتون، وتبقى تقول إنها لا تشبه سوى الفجر عندما يكشف عن أسنانه السوداء، وأنك لا ترى سواها حبيبة إلى الأبد، لكن ماذا يعني الأبد؟

هذا هو أنا، إني أطوف في باحة دارنا، وأراك في فناء الدار تخون ناديا، تطعن ناديا في قلبها، وتقول إنها شاعرة رديئة جداً بينما أرى كلّ أطراف الدار من المدخل، مروراً بالدهليز وصولاً نحو الغرف، وبينما أطوف في البيت وحيداً، أذكرُ كلّ ما حدث جيداً، أذكرهم كلهم: بيبو، وجدتي ناديا، وأذكرك يا جدّي ببنطالك الأصفر، وأرى الدار كلّها حطاماً، كيف يشعر ذلك الإنسان الماكر عندما يرى بيته حُطاماً؟ هل يشعرُ بالغضب؟ ذلك الغضب الذي يحتلّ أبداناً تجرّعُ ذاتها. مَن يبرّر لنا غضبنا والأشياء كلها تتمزّق، والأصوات تبلع ذاتها، والشراشف تنزلق من على الأسِرّة، والملاعق تهرب من المطبخ، تراها تقفز من الدُّرج، تفرُّ نحو باحة دارنا، وذلك الإنسان ضعيف، يسقط كلما تقدم خطوة. وأنا أبقى أمشي وحيداً على الجسر الكبير، وحيداً أفكّر.

■ ■ ■

لقد علقنا هنا كلّنا، والخوف من الرأس حتى أخمص القدمين، والخوف مثل الفجر، يشقّ قلوبنا، والخوف يجري بين العروق، يتجوّل مثل الليل، يطرق كلّ الأبواب، وأسمعها تنادي، قادمة من بعيد، صهباء مثل النار، اسمُها ناديا الفاعور، لقد حُبسنا، ويقولُ لي الجندي بصوته الجهور: أمامك عشرُ ساعات، عشرةُ آلاف كلمة، عشرون ورقة، قلمَا حبر...

يجب أن أكتب حكاية ناديا الفاعور كلّها كي يفرط اعتقالنا، حسناً، سأكتبها، كما أذكرُها، دعوني أذكرها، لقد تذكرتها من الـ hyoid bone، أذكر حلقَها أولاً، وأعلم أنها دَفَنتِ الوثائق. كانتْ تفوحُ مِن شعرها رائحة الحمّص لا اللوز المرّ، صهباء، تترنّح في شوارع حيفا، تقطع وادي النسناس، وتمرّ من شارع عصفور، لتصلَ إلى الحيّ الألماني منهكة من التعب وتحكّ عنقها، بينما تولول النسوة على الشرفات، فيما الرجال يصيحون في الأزقة الضيقة، وأطفالٌ يهابون قدوم الغول المنتظر. وجدّي يُشبه النار وشطائر فلافل فاسدة وسط الطريق؛ نفايات محروقة، معلّبات تونة فارغة، عُلبٌ بلاستيكية، أسلاكٌ معدنية، أسلاكُ حديدية، أسلاكٌ مطاطية، وناديا تشعر بالحكّة، وعينا جدي تُحدّقان مثل النار.

أشياءٌ أُخرى من المغيط، لِحافٌ مُمَزّقٌ، وِساداتٌ من القطن، سدّاداتُ أذنٍ لونها أصفر، فُوَطٌ صحية ملطَّخةٌ بالدماء، أوانٍ أكلها الصدأ، ثيابٌ مُمَزَّقةٌ ومُهترئة تخرجُ منها الصراصير، وناديا الفاعور تكرهُ الحشرات. فيما نملةٌ كبيرةٌ تقفُ وسط طريقها، وتمنعُها من مواصلة المشي، وفستانُها يطير، وهي تطير، تُحلّق...

■ ■ ■

أواجهُ ذاتي: لا تهربْ من السؤال. الآن قل لي ماذا تعلم عن العصر الروماني المبكّر، الوسيط والمتأخّر؟ قلتَ بأنك درستَ تاريخ المنطقة جيداً، وأنك تعرف فلسطين شبراً شبراً، وتعدّ مدنها على الأصابع، وترى فلسطين كائناً صغيراً هشّاً ولا تعلم شيئاً عن الدولة السلوقية، كيف هذا؟ وترى أنهم يُقَسّمون فلسطين كلّ دقيقة وتبقى راقداً بلا حراك. قسّم الرومان فلسطين إلى خمسة أقضية مستقلّة إدارية: قضاء القدس، وقضاء أريحا، وقضاء جازر، وقضاء صفورس، وقضاء أماثوس...

قسّمت الصهيونية فلسطين إلى خريطة 48 وخريطة 67، ومناطق داخل الخطّ الأخضر، وخارج الخط الأخضر. لكنك تنسى كلّ هذا وتفكّر في ناديا، تنسى الضفة الغربية، الضفة الشرقية، قطاع غزة، عرب الداخل، مهاجرين، شتات، لتروي قصة ناديا، الفتاة التي تحلم بها كلّ ليلة. أقول لنفسي؛ ناديا جدّتي ووحيدتي، كيف لا أروي قصتها؟

ويسألني الجندي؛ كم ساعة يعمل الكاتب يومياً؟ يقولون إنهم يكتبون خمسة آلاف صفحة وتبقى مئاتٌ منها فقط، وأحياناً لا شيء، يقذفون بها إلى النسيان، يمزّقونها جيداً، أو يلوكونها، ومن ثمّ يبتلعونها، وبعدها تأتي دورة القيء، إنهم يجترّونها، عملية اجترار. لقد بلعَنا الوطنُ قبل أن نبتلعه، لقد مزّقنا صورته فوق مدينةٍ تُدعى حيفا، بينما يسحبنا الجنود من الدار، تلك الدار التي نذكرها كلّنا كما نذكر ناديا الفاعور وهي تطبخ الحمّص وعيناها تحدّقان في نار، وأنا أفتح لها كربونات الصودا كي تقذف بها نحو الحمّص، لكني أسمعها كما أسمع أصوات الليل، لكن لماذا الليل؟ لأن الأصوات القادمة من الأحلام لا تأتي في وضَحِ الصباح بل في أقاصي الليل. لكنْ ماذا يعني الليل لناديا؟

كاتب فلسطيني من مواليد حيفا المحتلّة، ويقيم في إسطنبول. والمقاطع أعلاه مقتطفة من باكورته الروائية "الأشجار الأُولى"، التي تصدر هذه الأيام عن دار "هاشيت أنطوان".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي