منها وإليها..

2023-03-24

رنا الصيفي

ها أنا أشحن نفسي ببعض الطاقة المتبقّية من رصيدي الأسبوعي، الذي أختمه مساء كلّ جمعة بتنهيدةِ رافعِ أثقالٍ كاد أن ينسحق تحت الحديد بفارق لحظة.

أتوجّه إلى المقهى رفقةَ كتابٍ وابتسامة لا شعور فيها. مجرّد ابتسامة محايدة بين الابتهال لبعض الخلوة مع النفس والتبريك للحياة. أنا حيّة، إذن أنا محظوظة! أنا أعمل ما أحبّ، إذن أنا محظوظة! إليكِ سببٌ لتفرحي، لتكوني ممتنّة!

لا شعور..

يُثقلني هذا المونولوج التافه المكرور..

أتّخذ الكنبة المعتادة عليّ.. أتُراني ثقيلة عليها؟

قهوة؟ ستؤرّق ليلي.. عليكِ بشاي البابونج علّه يُرخي توجّم روحك. براونيز الشوكولا تُسيل اللعاب! اشتهيها في رأسك! مخبولة! ألا تُقيمين وزنًا لوزنك حتى تكدّسي السموم في جسمك؟ أروح أقرأ علّ اشتهائي يزول بانشغال عقلي. يرفض. صالحيني معك، يقول. أُسكته. صليني بقلبكِ، يستجدي. توسّلكَ لن ينفع، ركّز في ما يعنيك: اتْبع التعليمات وأنجز المُهمّات. كُنْ كما أنتَ، آليًا فقط. دعيني أنفذ إلى روحكِ، يتوسّل. عن أي روح تتكلّم؟ أتلك المتمزّقة بين ما تريد أن تفعل وتفعل ما لا تريد؟ تلك التي تنشُدُ العزلة لكنها تحيا بالضجيج ومن أجله؟ ما أزال في المقطع الأول.. حروفٌ رموز. تنفّرني. أحاول وصل معانيها. أحاول التركيز.. لا تكفّ روحي عن مضايقتي. ترفس أضلعي. ألقّمها البابونج. تبرّمه في فمها، ساخرة، تبقبقه في حلقها، متلاعبة، وترشّني به دفعةً: اصحي!

أُلقي الكتاب من يدي بنزق. يتزحلق حتى حافّة الطاولة الخشبية الصغيرة ليستقرّ عند خدوش طولية شقّها فرطُ الاستهلاك. هكذا أنتِ، أقول لذاتي، أنتِ مستهلَكة بإفراط! استهلككِ الخير الذي به تؤمنين، والطيبة المشعّة من مساماتك، والصدق اللامع في عينيك.. كوني رذيلة ولو مرّة! شكّكي! لا تثقي! تجاهلي! ناوري! تلاعبي! كوني في حلٍّ من الفضائل، فهي لم تعد تصلح لهذا الزمن! اكذبي! كوني فاجرةً ولو مرّة! ارتدي اللؤم وجهاً! اتّخذي الشتيمة عادةً والوقاحة صنعة! اقبلي عروض المتعة! اعتلي أسرّة الشهوة وغادريها، كمن ثملتْ من أوّل عناق واستفاقت عند آخر رعشة..

أتعبْتِني.. تنادين بعيش اللحظة والدهر أقرب إليك منها. تدّعين الفرح، والأسى يرتمي فوقكِ كلّ ليلة. أتحدّاكِ أن تدعي صدقك ذاك يفضح دمعك على مرأى من الجميع! أن يُخبر عن تخشّب قلبك ونضوب دمائك! أن يُفصح عن توق عنقك إلى شفاهٍ تُجيد العبث، وأنفاسٍ تتكثّف فيها الروح، عن صهيل الرغبة فيكِ.. وعن تمنّعك عنها كلّها بانتظار ذاك الفارس الوهم.. قولي إنكِ، حين تندسّين في عتم ليلكِ، تخشين أن تكون تلك آخر إغماضة.. وإنكِ، عندما تستفيقين، تتلين صلاة الشكر ألف مرّة. اعترفي بأنك تخدّرين وحدتكِ بكأس نبيذ وتراتيل وإيقاعات و.. كتاب. اشهدي أنك تَكرهين لطفكِ وتتمنّين سحقه وجَبْله من طين الفظاظة، لكنك تعجزين. قولي إنك تَرينَ الرياء المتخفّي في حديث هذا أو ذاك، والحقيقة الصارخة في صمتهم، وتودّين لو يعلمون أنك تعرفين، لكنك تختارين ألا يعلموا.. قولي إنك تُفرطين في احتضان الآخرين متى استاؤوا من كلمة الحق التي تقولين.. ليستاؤوا! إن تنكّروا للحق، فهم غير مستحقّين!

واهمة أنت في رضاكِ عن كلّ شيء وفي اقتناعكِ بأن الكارما واقعة لا محالة وأنّ حُسن أخلاقك وصفاء نيّاتك ومجانية عطاءاتك وشغفك المهني ونهجك السليم، سترجع إليك أضعافاً.

متى؟

لا أعرف، يجيبني عقلي، أعرف أنك صالحتِني مع ذاتك.

كاتبة لبنانية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي