الخوف والموت والشهوة في أعمال بول هنري غوغان: صانع الاسطورة - ابراهيم درويش

خدمة شبكة الأمة يرس الإخبارية
2010-10-03
لندن تشهد اكبر معرض استعادي له منذ اكثر من نصف قرن

يهدف معرض 'غوغان: صانع الاسطورة' الذي افتتح يوم الخميس في 'تيت مودرن' في لندن الى البحث عن ملامح جديدة في حياة الفنان يوجين هنري بول غوغان (1848- 1903) وقراءة حياته بعيون القرن الحادي والعشرين. ويفترض القائمون على هذا المعرض الضخم ان الفنان الذي عرف برسومه عن البحار الجنوبية، والنساء التاهيتيات العاريات، وغرامه بالذوق وان كان على حساب الخطوط والاشكال المعروفة عند الفنانين التقليديين، انه كان يبحث في كل ما رسم في فترته الانطباعية وما بعد الانطباعية وكل المدارس التي خرجت من معطفهما عمّـا اسمته بيلندا تومبسون 'استراتيجيات السرد' وهي استراتيجيات عملت على صناعة وتخليد اسطورة. ولان الاسطورة هي اسطورة فقد آمن بها صانعها غوغان وكان يجب ان يموت بعيدا عن مدينته باريس التي رحل عنها من اجل البدائية والبراءة الطقوسية التي وجدها في المارتينك، انتيل ، اوشينا وبولوينزيا وتاهيتي وغيرها من الجزر الكاريبية الفرنسية. فقد تطلع غوغان إلى الزمن الذي يأتي ويعتقد الناس فيه انه كان اسطورة او 'قصة من اختراع الصحف'. ومن هنا يقدم المعرض في غرفه الاحدى عشرة كل ما يتعلق بغوغان من مصادر موثقة، رسائل وخطوط تمثل رحلاته حول العالم وعلاقته بالمشهد الادبي وحكايته المأساوية مع صديقه فيسنت فان غوخ، الذي دعاه لارلز والعمل معه في البيت الاصفر الذي اقامه في هذه المنطقة الريفية الجميلة لممارسة ابداعه، ولكن العلاقة انتهت عندما شهر غوخ شفرة حادة في وجه صديقه الذي ولى هاربا ولم ير صديقه ابدا. ومع الوثائق يحاول المعرض او يفترض معـدّوه ان رسائل غوغان تقدم صورة عن الفنان نفسه ورؤيته لنفسه كفنان عظيم وكأسطورة وخيال. وهي فكرة تنتشر في كل الاعمال حتى الرسومات الثابتة للازهار والوجوه، وان غوغان كان يلبس اقنعة متعددة في صوره لنفسه ولغيره، والاهم من ذلك فغوغان المعروف في عالم الفن بالولد المتوحش والخارج عن التقاليد يعتبر حسب هذه النظرة صانع الفن الحديث ومؤثرا في الفن المعاصر، وفي كل حركات الفن التي ظهرت في القرن العشرين من التكعيبية الى الرمزية والتجريدية، وتأثيره كان واضحا على بابلو بيكاسو.

البدائية الطازجة

وتمثل رحلة غوغان صورة عن القلق ومستويات التفسير فالعري الطازج والساخن في اعماله مسكون برمزيات عن الحياة والجنة التي تخيلها ارضية ووجدها في البحار الجنوبية. صحيح ان غوغان رحل عن باريس التي وصفها بمركز العفن، والمادية كانت حاضرة في مستعمراتها، وانه عندما وصل الى تاهيتي وجد أن المبشرين قد زرعوا حكاياتهم وقيمهم في عقول الناس المحليين وغيروا افكارهم فيما مارست السلطة الاستعمارية عملية تغيير للحياة هناك، الا انه وصل الى تاهيتي (التي مات فيها متأثرا بمرض السفلس) واستطاع ان يمسك ببعض الملامح التي سجلها ووثقها بعين الفوتوغرافي والانثروبولوجي وكانت موجودة. بدائية نضرة ومشاهد مفعمة بالجمال و متوحشون يعيشون حياتهم بهدوء. عندما غادر باريس 1891 الى البحار الجنوبية كتب قائلا 'انا راحل من اجل الراحة والهدوء والتخلص من آثار المدنية ولأغمر نفسي في الطبيعة العذراء، ولا ارى احدا بل المتوحشين'. صحيح ان قراءة ما كتبه غوغان وخطه من ملاحظات عن فنه والحياة التي كانت في طريقها للنهاية تمثل عقلية القرن التاسع عشر من رؤيته للعالم من خلال متوحشين ومتحضرين، لكن غوغان اليوم تمكن قراءة ما كتبه بعيون من خلال نظرة جديدة، وضمن كتابات ما بعد الاستعمار، اذ انه اكتشف اثر سياسات الاستعمار والمبشرين الذين 'ادخلوا الكثير من النفاق البروتستانتي 'على السكان والطبيعة حيث وقف الى جانب السكان في تاهيتي، وحرضهم على رفض دفع الضريبة وحكم عليه بالسجن الذي لم ينفذ بسبب موته. وكان غوغان واعياً لما وصلت اليه معدلات التغريب ففي عام 1891 وبعد ان ترك عاصمة تاهيتي، بابيتي، الى قرية في قلب الجزيرة، ماتيايا، اخذ معه دليلته النصف تاهيتية ـ الانكليزية قرر التخلي عنها لانها 'متغربة اكثر من اللازم'. وكتب هنا عن هذه اللحظة قائلا 'انا فنان وانت محق، لست مجنونا، فنان عظيم انا واعرف هذا، ولانني اعرف هذا فقد تحملت كل هذا الالم '.

رفض الرأسمالية

ان الكتابات التي خطها غوغان تماما مثل رسائل غوخ لأخيه واصدقائه تفتح امام المشاهد نافذة للقراءة والتحليل الجديد لما يقف خلف الصور وكيف ان الفنان نفسه وجد نفسه اسير اسطورته التي عمل جاهدا على خلقها، فبين السطور تأكيد على عظمته وخلف الاسطورة حنين في الايام الاخيرة للعودة إلى فرنسا وبريتاني ومراسم البوهيميين والانطباعيين والباحثين عن الجمال المتوسطي في الجنوب الفرنسي. لكن احد اصدقائه حذره من العودة لان هذا يعني تدميرا لكل ما عمله وجَهد لاختراعه حول نفسه. ولأن كل حكاية تبدأ بالمثال والخيال يجب ان تنتهي بالخيال ومن هنا مات غوغان متأثرا بمرض السفلس وضعف في القلب وتأثره بالكحول التي كان يتعاطاها بكثرة. يكشف معرض 'صانع الاسطورة' عن فنان جاء من ارضية رأسمالية ثم تحول للكدح وعندما قرر ترك كل شيء وراءه، عائلته في كوبنهاجن، عمله في مجال المضاربات المالية، تحول إلى رحالة دائم في العالم من اجل فنه، ومن هنا عاش سنوات من الكدح والجوع والفقر، منها عمل لعدة اسابيع في حفر قناة بنما قبل ان يطرد من عمله. وتمتلىء كتابات غوغان عن الفقر والجوع ففي صيف عام 1886 وبعد ان وضع ابنه كلوفيس في مدرسة داخلية وذهب الى قرية بون ـ افين في الجنوب الفرنسي وعاش في نزل حقير كتب يقول 'هنا في بون ـ افين انا فنان محترم مع ان هذا الاحترام لا يضع مالا كافيا في جيبي'. وفي مناسبة اخرى وبعد ان خلا جيبه من النقود واخذ يبحث عن وسائل لبيع لوحاته في كوبنهاغن وباريس كتب 'عرفت معنى الفقر المدقع والجوع والبرد وكل شيء يتعلق به. صحيح ان الجوع يشحذ العبقرية لكن الفقر المدقع يقتل '. هذا ما كتبه في دفتر من دفاتره عام 1892. يجمع المعرض وبناء على ترتيب موضوعي اعمال الفنان التي رسمها في باريس وبريتاني ومارتنيك وتاهيتي، ولا يعنى المعرض بالرسوم فقط، بل بالاعمال الخزفية والفخارية والتصميمات واعمال نحتية لوجوه، ورموز دينية واشكال لبيوته التي صممها، بيت الفنان الذي صممه لزوجته وابنائه الخمسة من ميتي غاد (التي تزوجها عام 1873)، وبيت اللذة الذي صممه في تاهيتي (1901-1902)، وهو حاضر بشكله مثل المعبد القديم وطقوسه الوثنية. كما يجمع المعرض وثائق وكتبا عن حياة الفنان وملصقات للمعارض التي شارك فيها، خاصة معارض الانطباعيين في الثمانينيات من القرن التاسع عشر. وصور كارتون التي تصور الطريقة الساخرة التي تم فيها تقديم مبادئ الحداثة الفنية في الفن الفرنسي الى بريطانيا وذلك بعد وفاة الفنان، حيث اقام روجر فري عام 1910 معرضا لما بعد الانطباعيين في غرافتون غاليري، وعرض فيه اعمالا لغوغان، ولقي المعرض حفاوة من الاعلام حيث بلغ عدد المقالات التي كتبت عنه 50 مقالا وزاره 25 الف شخص.

الخفاء جزء من الاسطورة

المهم في 'غوغان: صانع الاسطورة' انه وإن جاء للفن، اي كرس حياته له في منتصف الثلاثينيات من العمر، الا انه استطاع تأكيد اسلوبه وحفره بعيدا عن آثار الاساتذة فلم يعد يهتم بعد أن حدد طريقته واسلوبه إن كان قد خرج عن تقاليد الانطباعيين او التقليديين او الحرفيين فهو كما يخبرنا كاتالوغ المعرض كان يبحث عن فن لا يرى ولا يحس، فن سماوي. ومع انه في 1891 وقبلها كان يتطلع بشوق لمعرفة رأي مانيه في اعماله ورسومه لكن عندما عتب الجزر الجنوبية والاستواء اصبح استاذ فنه وصانع اسطورته وعليه نفهم مراوحة الفنان بين فكرة الاسطورة التي آمن بها وحرص على تأكيدها عام1897 وبين حنينه في عام 1902 للعودة الى بلده والخروج من العزلة التي كانت ثمنا لعقد مع الشيطان او فاوست. وهنا بدأ يحلم ويحن للعودة والاستقرار في البيرانيز لكنه اجبر او اقنع بالبقاء حيث كتب له صديقه 'انت الآن فنان لا مثيل له، يرسل الينا من اعماق اوشينيا اعماله المعجزة، وهي اعمال مهمة لفنان اختفى'. ويقرأ في الرسالة ان غوغان في اللحظة التي قرر فيها التخلي عن كل شيء المال والبنون والزوجة والتجريب في الفن اصبح ميتا في عرف المشهد الفني الباريسي الذي هرب من عفنه وماديته وقرفه، وبالتالي اصبح ميتا، وحاضرا فقط في اعماله 'في هذه اللحظة انت تتمتع بعصمة رجل ميت، رجل اصبح جزءا من تاريخ الفن'. ولأنه كذلك فالناس يقرأون عنه ويوسعون اسطورته ويبنون سمعته واية عودة تعني انهيار كل ما جمعه وبناه غوغان.

وجوه الفنان المتعددة

يبدأ الزائر رحلة في حياة وانتاج غوغان ـ اسطورته في النظر الى صوره التي صنعها عن نفسه حيث يقدم لنا الفنان اكثر من رؤية عن نفسه من رجل برجوازي ومكرس نفسه لابنائه وسعادة عائلته، رجل اعمال ناجح الى شخص فقير، متشرد بوهيمي يبحث عن قوت اليوم وما يروي به ظمأ يومه. وعلى الرغم من التحولات التي عاشها غوغان من ابن الرأسمالية الاوروبية الى ابن البدائية في طراوتها وعذريتها الاخيرة والتي ظلت محلا للتساؤل، الا انه يجب تأكيد ان غوغان كان في صوره الشخصية لنفسه يحاول خلق 'صورة' له ونعيد ان هناك استراتيجية مدروسة لتأكيد الصورة وعظمة الفن والفنان. فالاعمال التي نراها تصوره وهو يلبس القبعة التي تشبه الطربوش لكن اوسع والمتصلة بالبوهيميين والفنانين والمثقفين، وهذه الصور تصوره عندما كان لا زال في قطاع المال والمضاربات، ومتزوجاً بامرأة دانماركية. ويلحظ في الرسوم الشخصية محاولة من الفنان لتسويق نفسه في سوق الفن الفرنسي، وعندما ضرب سوق المال وتحول للفن تظهر ملامح الكفاح على الفنان والطريقة التي مثل فيها نفسه، حيث انتقل مع عائلته الى روين ومنها الى كوبنهاغن حيث ترك زوجته هناك ولم يرها ابدا. والنقطة الاخرى ان غوغان لم يهتم كثيرا برسم نفسه عندما استقر في تاهيتي ورحلاته اليها في الفترة ما بين (1891 -1893). واهم مظهر نراه في المرحلة التاهيتية انه قام برسم نفسه وخلفه لوحة من اهم لوحاته 'مانوا توباباو' 1892 حيث عرف نفسه بفنه وهو ما توصل اليه لاحقا بقوله 'انا فني'. وآخر رسم شخصي لنفسه كان عام 1903 حيث تظهر عليه ملامح التعب والمرض وفي داخل الصورة لم يفت الفنان ان يمرر لنا من خلالها فكرة الرجل الابدي، المكافح الذي يقاوم الاستعمار وممثليه. لكن هذا لم يمنع الفنان من وضع قناعه وصورته على آلام المسيح كما يبدو في صورته 'المسيح في بستان الزيتون'(1889).

العادي وصورة الغرابة

في مشاهد اخرى نقرأ الكيفية التي حاول فيها غوغان تغليف الحياة العادية بالرموز والغرابة، وصوره في هذه المرحلة التي ترسم الازهار، ومتاع البيت 'داخل بيت الفنان' (1881) عادة ما ترفق برموز تظهر الاشباح التي تلاحقه، ولعل من اجمل اللوحات التي نشاهدها هي لوحة 'البنت الصغيرة تحلم' وفيها تسجيل لما يدور في خيال البنت النائمة وما حولها من رموز مخيفة وغموض العالم الطبيعي، وعادة ما يضمن الفنان اشياء صنعها بنفسه كتذكارات، فرسان، واحذية واقنعة وهي محاولة منه لتأكيد حضوره في حياة اشخاصه. وهناك ملحظ اخر ان لوحة 'البنت الصغيرة تحلم' تمت استعادتها بصورة اخرى في لوحته المعروفة وفي المرحلة التاهيتية 'مانوا توباباو' او 'ارواح الموتى الحاضرة تراقب' (1892).
تمتلىء لوحات غوغان عن الحياة الريفية بالرموز النمطية والكليشيهات خاصة تلك التي رسمها عن الفلاحين في الجنوب الفرنسي، حيث عادة ما ترتبط طريقة معيشتهم بالإوز والبقر وهي موضوعات سيعود اليها في مرحلته الاستوائية، لكن غوغان كان مهتما بالدرجة الاولى بتضمين اعماله الحكايات والرموز التراثية والدينية. ولا بد من الاشارة الى ان رحيل غوغان عام 1886 من العاصمة للريف كان لدواع اقتصادية، لكن هذا لا ينفي ان يكون الفنان محبا للطبيعة في براءتها الاولى حيث كتب 'احب بريتاني، اجد البرية والبداءة'. ومن هنا كانت رحلته التي استمرت خمسة اشهر في الكاريبي منها رحلة غير موفقة لبنما، ومرضه بالاسهال والملاريا مرحلة مهمة لتطوره الفني. فقد منحته المناظر الطبيعية للاستواء المشبع بالندى والبراءة، عاطفة قوية جعلته في مرحلة لاحقة للتخلي عن تقاليد الفن الاوروبي المهتم بالتفاصيل.

المقدس وموضوعاته

في كتاباته واحاديثه شدّد غوغان على معارضته للدين الممثل بالكنيسة، لكن لوحاته مشبعة حتى التخمة بالرموز الدينية المسيحية والوثنية والاحلام ونداءات الاجداد. فقد حاول البحث في بريتاني او ما رسمه في مرحلتها عمّـا يقف وراء الدين المنظم وما تبقى من التقاليد الكلتية القديمة، وهذا واضح في لوحته حلم سيرمون 'يعقوب يصارع الملاك' (1888) واصبح الامر اكثر وضوحا عندما ذهب للاستواء عام 1891 حيث استبدل الرموز المسيحية بالرموز الوثنية التاهيتية 'اجداد تهمانا او تهمانا لها اجداد كثر' (1893) واخرى 'تي تاما انو اتاوا '(1896) او الطفل الاله. فعندما قدم طلبا للمعتمد الفرنسي يطلب السماح له بدخول المستعمرات الفرنسية هناك ذكر في مبررات الطلب انه يريد ان يدرس عادات ومناظر الحياة هناك، ولكنه شعر بالخيبة عندما وصل هناك ليكتشف ما فعله المبشرون، ومع ذلك لم يتخل عن الرموز الدينية المسيحية حيث يظهر اهتمامه بالعذراء، والرموز الاخرى المأخوذة من الالواح المصرية والمعتقدات البوذية بل الرموز الجاوية القديمة ـ الراقصات. في قراءة الرموز المقدسة عند غوغان على المشاهد النظر الى اصوله المسيحية الكاثوليكية التي ولد وتربى عليها ودرس في مدارسها وزاوجه من بروتستانتية. ومع انه اعتبر البروتستانتية متعالية وواجهها في الاستواء وكان من السهل عليه ان يهجرهما لكنه زرع صور التدين في لوحاته وقولب المسيح وصورته في اكثر من مشهد من مثل 'المسيح الاخضر' (1889) و 'المسيح الاصفر' (1889).

المرأة

يقترح المعرض انه تمكن قراءة فن غوغان عبر رؤية انثوية، وسياحية بل البحث عن السياحة الجنسية مع ان الكثير يرون في حديث غوغان عن مغامراته الجنسية مبالغات كثيرة، وبالتأكيد فهناك تحول لنظرة غوغان للمرأة وهذا ناتج عن رحلات الفنان الواسعة في كل انحاء العالم، وعلى الرغم من العري والنظرة السلبية التي قد تظهر فيها المرأة لكن فناننا حاول تقديم المرأة كرمز لا نهائي، موضوعات متجذرة في التاريخ، بأبعاد دينية مأخوذة من الانجيل والقيم الدينية الوثنية القديمة والخرافات الشعبية. ويبدو ان غوغان انجذب نحو هذا المنحى مندفعا بالرؤية 'الرمزية' للانثى كرمز ابدي. وتمثل المرحلة الاستوائية استمرارا لما بدأه في العودة للطبيعة في فرنسا، لوحة 'اونداين' ، وهناك تلاقح بين المرأة والماء حيث تخرج منه لتتزوج رجلا، وقد اعطى اسم 'بابي ماو' (المياه الغريبة) لعدد من لوحاته في تاهيتي. وتبدو المرأة وهي في عريها - تستحم او تتطهر من الدم النجس، وتفقد عذريتها موضوعا بعيدا عن الشهوة فالألوان والظلال تعيدها الى الارض والتراب والطبيعة - الشمس والماء والتراب.

العناوين الموسيقية ودور الحكواتي

وهذا يقودنا الى منحى آخر من مناحي اعمال غوغان، فقد كان يختار العناوين احيانا لموسيقاه الجميلة والتي لا تعني الكثير لمضمون اللوحة، ولكن العنوان يظل بالنسبة له جزءا حيويا من ايقاع اللوحة وابداعيتها، وفي الكثير من اللوحات عناوين تظهر على شكل اسئلة 'الى ان نحن ذاهبون؟ 'او 'هل انت غيورة؟' (1892)، 'الى اين انت ذاهبة'(1892 و 1893)، او 'متى ستتزوجان؟'(1892) و 'هل انت غاضبة؟'(1896). من الامور المهمة التي يلح عليها المعرض ان غوغان مارس دور 'الحكواتي' وهذا يظهر في عمله المهم 'نوا نوا' و 'اوبا اوبا' او رقصة النار (1891) حيث اهتم بالاساطير والحكايات الشعبية وعادات السكان، ومع انه حاول تسويق الجنة الارضية التي وجدها في تاهيتي الا انه، كما اشرنا في البداية، شعر بالخيبة ان هذه الجنة قد تغربنت. ومثلما آمن بالاسطورة التي صنعها عن نفسه ظل يؤمن بالجنة الارضية في المكان الذي اختاره لها. وكلا الحالتين مات اسيرا لهذا الايمان الزائف لكن من خلاله افرغ محتويات ابداعه وقدم اجمل ما لديه. اهمية معرض 'صانع الاسطورة' انه يقدم فنانا قابلا للتفسير بمفاهيم اليوم ويفتح الباب امام العودة لقراءة مجمل تجربته وتفسيرها سياسيا. كما انه يعيد الاعتبار لغوغان كأستاذ وأحد آباء الحداثة في الفن المعاصر. لا يمثل فن غوغان قطيعة مع الماضي الاوروبي بل استمراراً ولكن بحرارة اكثر مع تقاليده ومؤثراته فقد استخدم الفنان هنا وهناك كل ما لديه من ثقافة وحرفية وعكسها على السياق الذي اعتقد انه يحبه ويريده.
وهنا تبدو حميمية اللوحة والروح والحنين والحب فيه ، والبحث عن زمن الوداعة والكسل 'كسل في تاهيتي' (1901) و 'مشهد رعوي من تاهيتي '(1898) و 'الهروب'(1901) و 'حكايات بدائية' (1902).

قصته باختصار

قصة غوغان معروفة فهو يوجين هنري بول غوغان، المولود في باريس ، وهو الابن الثاني للكاتب والصحافي بيير غويليم كلوفيس غوغان والذي عمل محررا لصحيفة 'ناسيونال'، اما ام الفنان فهي الين ماري كازال ابنة الناشطة السياسية والرمز النسوي المعروفة فلورا تريستان، ذات الاصول البيروية. وفي سن مبكرة يرحل غوغان مع والده كلوفيس الى البيرو كلاجئ سياسي بعد الثورة عام 1848، ويموت الاب في الطريق بعد نوبة قلبية حادة ويواصل الطفل مع امه واخيه الاخر الى ليما حيث يقضي الخمس سنوات الاولى من حياته في ليما، عند خاله دون بيو دي تريستان موسكوس، وهي السنوات التي ستمنح غوغان الحق فيما بعد لتعريف نفسه بالمتوحش والبدائي والاعتماد على اصوله القديمة في امريكا اللاتينية. في عام 1854 تقرر الام العودة إلى فرنسا والاستقرار في اورليانز حيث يدرس غوغان فيها. ويدخل عام 1859 إلى مدرسة سانت ميزمين تشابل الاعدادية ويقضي فيها ثلاثة اعوام ويظهر في دراسته تفوقا.
في عام 1865 يقرر الانخراط في الخدمة العسكرية ويعمل في السفن التجارية والبحرية الفرنسية. ويكتب غوغان لاحقا ان حياته كانت دائما غير مستقرة وانه حمل في شرايينه 'دمين او عرقين'. في عام 1867 يتلقى انباء وفاة والدته وهو في البحر.
ويوضع تحت وصاية ممول وجامع فن اسمه غوستاف اروسا وهو الذي يجد له فيما بعد عملا في السوق المالي. وبعد مشاركته في الحرب الفرنسية على بروسيا عام 1870 يترك الجيش ويجد عملا كمضارب في باريس، وفي عام 1873 يتزوج الدانماركية ماتي غاد. في عام 1876 بدأ غوغان رحلته كفنان غير متفرغ في باريس واخذ يشارك في معارض الانطباعيين منذ عام 1880. وفي عام 1885 يهجر غوغان عائلته ويتركها في الدنمارك ومن هذه الفترة يبدأ رحلته الشخصية لصناعة اسطورته.

' ناقد من اسرة 'القدس العربي'
 
 









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي